الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المجلس الثاني عشر

امرؤ القيس يحمل لواء الشعر إلى النار  

حدثنا أحمد بن عبد الله بن نصر بن بجير القاضي، قال: حدثنا سليمان ابن سيف، قال: حدثنا حيان أبو عبد الله جار أبي عاصم، قال: حدثني هشام بن محمد بن السائب، قال: حدثني فروة بن سعيد بن عفيف بن معدي كرب، عن أبيه، عن جده، قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل إليه وفد من اليمن، فقالوا: يا رسول الله! لقد أحيانا الله عز وجل ببيتين من شعر امرئ القيس، قال: وكيف ذاك؟ قالوا: أقبلنا نريدك حتى إذا كنا ببعض الطريق أخطأنا الطريق فمكثنا ثلاثا لا نقدر عليه، فتفرقنا إلى أصول طلح وسمر ليموت كل رجل منا في ظل شجر، فبينما نحن بآخر رمق فإذا راكب يوضع على بعير معتم، فلما رآه بعضنا قال والراكب يسمع:


لما رأت أن الشريعة همها وأن البياض من فرائصها دامي     تيممت العين التي عند ضارج
يفيء عليها الظل عرمضها طامي

قال الراكب من يقول هذا الشعر؟ وقد رأى ما بنا من الجهد، قال: قلنا: امرؤ القيس بن حجر، قال: ما كذب وإن هذا لضارج أو ضارج عندكم، فنظرنا فإذا بيننا وبين الماء نحو من خمسين ذراعا، فحبونا إليه على الركب، فإذا هو كما قال امرؤ القيس عليه العرمض يفيء عليه الظل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة، شريف في الدنيا خامل في الآخرة، بيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار".
[ ص: 84 ]

رواية أخرى للخبر

حدثنا أحمد بن علي بن السكين البلدي، قال: حدثني أبو داود سليمان بن يوسف الحراني، قال: حدثنا حيان بن هلال أبو عبد الله البصري جار أبي عاصم قال حدثنا محمد بن عبد الله بن السائب، قال: حدثنا فروة بن عفيف أو قال: عفيف بن معدي كرب، عن أبيه، عن جده، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه قوم من الأعراب حفاة عراة، فقالوا: يا رسول الله لقد أنجانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس بن حجر، قال: وكيف ذاك؟ قالوا: يا رسول الله! أقبلنا نريدك حتى إذا كنا ببعض الطريق أضللناه ثلاثا لا نقدر عليه، فبينا نحن كذلك عمد كل رجل منا إلى ظل شجرة أو سمرة ليموت تحتها، فإذا راكب على بعير له يوضع، فلما رآه بعضنا قال والراكب يسمع:


لما رأت أن الشريعة همها     وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارج     يفيء عليها الظل عرمضها طامي

قال: فقال الراكب: يا عبد الله! من يقول هذا الشعر؟ قال: امرؤ القيس بن حجر، قال: والله ما كذب وإن عنده الآن لضارجا عليه العرمض يفيء عليه الظل، قال: فنظرنا فإذا ليس بيننا وبينه إلا قدر عشرين ذراعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذاك رجل مذكور في الدنيا، منسي في الآخرة، بيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار".


قال القاضي: قوله في هذا الخبر والشعر: وأن البياض من فرائصها دامي (الفرائص) جمع فريصة وهي الموضع الذي يترعد من الدابة، قال النابغة الذبياني:


شك الفريصة بالمدرى فأنفذها     شك المبيطر إذ يشفي من العضد

ومن ها هنا أخذ قولهم: فلان ترعد فرائصه إذا وصف بشدة الخوف، ومن ذاك الخبر المروي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ورأى رجلين ترعد فرائصهما.

وأما قوله: تيممت العين، فمعناه قصدت وتعمدت، يقال: يممت كذا وكذا إذا قصدته، ومن ذلك قول الله عز وجل: فتيمموا صعيدا طيبا يعني اقصدوا، وذكر أنها في قراءة عبد الله بن مسعود. فأقول: والمعنى واحد، أممت وتيممت مثل عمدت وتعمدت، ويقال: أممت، قال الله عز وجل ولا آمين البيت الحرام يعني قاصدين وعامدين، وقال عز ذكره: ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ، وقرأ مسلم بن جندب: "ولا تيمموا" أي توجهوا، ومن هذا الباب قول الشاعر:


إني كذاك إذا ما ساءني بلد     يممت صدر بعيري غيره بلدا

ويروى: أممت، قال الأعشى:


تيممت قيسا وكم دونه     من الأرض من مهمه ذي شزن

[ ص: 85 ] وقال آخر:


تيممت همدان الذين هم هم     إذا ناب خطب جنتي وسهامي

وقال خفاف بن ندبة:


فإن تك خيلي قد أصيب صميمها     فعمدا على عيني تيممت مالكا

ومن هذا قولهم: أمر أمم أي قصد، قال الأعشى:


أتانا عن بني الأحرا     ر عنه قول لم يكن أمما

وقال ابن قيس الرقيات:


كوفية نازح محلتها     لا أمم دارها ولا صقب

الأمم: القصد، والصقب: القرب، ومنه: الجار أحق بصقبه، وقال الشاعر:


ولو نار ليلى بالعذيب بدت لنا     لحبت إلينا دار من لا يصاقب

وقال الأعشى:


فما أنس من الأشياء لا أنس قولها     لعل النوى بعد التفرق تصقب

وهذا باب يكثر ويتسع جدا، وفيما ذكرنا منه ها هنا بل في بعضه كفاية.

ومعنى قوله: يفيء عليها الظل، معنى يفيء: يرجع يقال فاء الظل أي رجع قبل الزوال، ولا يقال له حينئذ فيء، وإنما يقال له فيء بعد الزوال لرجوعه، وكلا الوجهين ظل، قال حميد بن ثور الهلالي:


فلا الظل من برد الضحى نستطيعه     ولا الفيء من برد العشي نذوق

ومن هذا سمي ما رد الله على المؤمنين من مال المشركين فيئا، وقال الله عز وجل: وما أفاء الله على رسوله منهم ، وقال: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ، وقال تقدس اسمه: فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ، وقال: فإن فاءوا أي رجعوا إلى غشيان من آلوا من نسائهم، وهذا الباب أيضا واسع بين.

وقول امرئ القيس: عرمضها طامي، العرمض: الطحلب الذي يكون في الماء ويقال له عرمض وعلفق ونور، وقوله: طامي، يعني أنه عال يقال: طما الوادي إذا امتلأ وعلا ماؤه، قال الأعشى:


ما جعل الجد الظنون الذي     جنب صوب اللجب الماطر
مثل النواتي إذا ما طما     يقذف بالبوصي والماهر

التالي السابق


الخدمات العلمية