باب في قضايا البغاة
قال في البرمكي : " لا ينبغي لقاضي الجماعة أن يجيز كتاب قاضي أهل البغي ولا شهادته ولا حكمه " قال أبو يوسف : وكذلك قال أبو بكر محمد ، وقال : " لو أن الخوارج ولوا قاضيا منهم فحكم ثم رفع إلى حاكم أهل العدل لم يمضه إلا أن يوافق رأيه فيستأنف القضاء فيه " قال : " ولو ولوا قاضيا من أهل العدل فقضى بقضية أنفذها من رفعت إليه كما يمضي قضاء أهل العدل " . وقال مالك : " تكشف أحكامهم فما كان منها مستقيما أمضي " وقال فيما حكم به أهل البغي : " إذا غلب الشافعي الخوارج على مدينة فأخذوا صدقات أهلها وأقاموا عليهم الحدود لم تعد عليهم ولا يرد من قضاء قاضيهم إلا ما يرد من قضاء قاضي غيرهم ، وإن كان غير مأمون برأيه على استحلال دم أو مال لم ينفذ حكمه ولم يقبل كتابه " .
قال : إذا قاتلوا وظهر بغيهم على أهل العدل فقد وجب قتلهم وقتالهم ، فغير جائز قبول شهادة من هذه سبيله ؛ لأن إظهار البغي وقتالهم لأهل العدل هو فسق من جهة الفعل وظهور الفسق من جهة الفعل يمنع قبول الشهادة كشارب الخمر والزاني والسارق فإن قيل : فأنت تقبل شهادتهم فهلا أمضيت أحكامهم ؟ قيل له : قد قال أبو بكر إنهم إنما تقبل شهادتهم ما لم يقاتلوا ، ولم يخرجوا على أهل العدل فأما إذا قاتلوا فإني لا أقبل شهادتهم فقد سوى بين القضاء وبين الشهادة ولم يذكر في ذلك خلافا بين أصحابنا ، وهذا سديد ، والعلة فيه ما ذكرنا . محمد بن الحسن
فإن قيل فقد قالوا إن الخوارج إذا ظهروا وأخذوا صدقات المواشي والثمار أنه لا يعاد على أربابها ، فجعلوا أخذهم بمنزلة أخذ أهل العدل قيل له : إن الزكاة لا تسقط عنهم بأخذ هؤلاء ؛ لأنهم قالوا : إن على أرباب [ ص: 285 ] الأموال إعادتها فيما بينهم وبين الله - تعالى - وإنما أسقطوا به حق الإمام في الأخذ ؛ لأن حق الإمام إنما يثبت في الأخذ ؛ لأجل حمايته أهل العدل ، فإذا لم يحمهم من البغاة لم يثبت حقه في الأخذ ، وكان ما أخذه البغاة بمنزلة أخذه في باب سقوط حقه في الأخذ .
ألا ترى أن أصحابنا قالوا لو مر رجل من أهل العدل على عاشر أهل البغي بمال فعشره أنه لا يحتسب له الإمام بذلك ، ويأخذ منه العشر إذا مر به على عاشر أهل العدل ؟ فعلمت أن المعنى في سقوط حق الإمام في الأخذ لا على معنى أنهم جعلوا حكمهم كأحكام أهل العدل .
وإنما أجازوا إذا كان القاضي من أهل العدل من قبل أن الذي يحتاج إليه في صحة نفاذ القضاء هو أن يكون القاضي عدلا في نفسه ويمكنه تنفيذ قضائه ، وحمل الناس عليه بيد قوية سواء كان المولي له عدلا أو باغيا . قضاء قاضي البغاة
ألا ترى أنه لو لم يكن ببلد سلطان فاتفق أهله على أن ولوا رجلا منهم القضاء كان جائزا وكانت أحكامه نافذة عليهم ؟ فكذلك الذي ولاه البغاة القضاء إذا كان هو في نفسه عدلا نفذت أحكامه " ويحتج من يجيز مجاوزة الحد بالتعزير بقوله - تعالى - : فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فأمر بقتالهم إلى أن يرجعوا إلى الحق ، فدل على أن التعزير يجب إلى أن يعلم إقلاعه عنه وتوبته ؛ إذ كان التعزير للزجر والردع وليس له مقدار معلوم في العادة .
كما أن قتال البغاة لما كان للردع وجب فعله أن يرتدعوا وينزجروا قال : إنما اقتصر من لم يبلغ بالتعزير الحد على ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبو بكر من بلغ حدا في غير حد فهو من المتعدين .