تنبيهات
الأول : زعم بعضهم أن شرط صحة النفي عن الشيء صحة اتصال المنفي عنه بذلك الشيء ، وهو مردود بقوله تعالى : وما ربك بغافل عما يعملون [ الأنعام : 132 ] ، وما كان ربك نسيا [ مريم : 64 ] ، لا تأخذه سنة ولا نوم [ البقرة : 255 ] ، ونظائره . والصواب أن انتفاء الشيء عن الشيء قد يكون لكونه لا يمكن منه عقلا ، وقد يكون لكونه لا يقع منه مع إمكانه .
الثاني : نفي الذات الموصوفة : قد يكون نفيا للصفة دون الذات ، وقد يكون نفيا للذات أيضا .
من الأول : وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام [ الأنبياء : 8 ] ؛ أي : بل هم جسد يأكلونه .
ومن الثاني : لا يسألون الناس إلحافا [ البقرة : 273 ] ؛ أي : لا سؤال لهم [ ص: 135 ] أصلا ، فلا يحصل منهم إلحاف . ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع [ غافر : 18 ] ؛ أي : لا شفيع لهم أصلا . فما تنفعهم شفاعة الشافعين [ المدثر : 48 ] ؛ أي : لا شافعين لهم فتنفعهم شفاعتهم ، بدليل : فما لنا من شافعين [ الشعراء : 100 ] . ويسمى هذا النوع عند أهل البديع نفي الشيء بإيجابه .
وعبارة ابن رشيق في تفسيره : أن يكون الكلام ظاهره إيجاب الشيء وباطنه نفيه ، بأن ينفي ما هو من سببه كوصفه ، وهو المنفي في الباطن .
وعبارة غيره : أن ينفى الشيء مقيدا ، والمراد نفيه مطلقا مبالغة في النفي وتأكيدا له . ومنه : ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به [ المؤمنون : 117 ] ، فإن الإله مع الله لا يكون إلا عن غير برهان . ويقتلون النبيين بغير الحق [ البقرة : 61 ] ، فإن قتلهم لا يكون إلا بغير حق . رفع السماوات بغير عمد ترونها [ الرعد : 2 ] ، فإنها لا عمد لها أصلا .
الثالث : قد ينفى الشيء رأسا لعدم كمال وصفه أو انتفاء ثمرته ، كقوله في صفة أهل النار : ثم لا يموت فيها ولا يحيا [ الأعلى : 13 ] ، فنفى عنه الموت ؛ لأنه ليس بموت صريح ، ونفى عنه الحياة لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة .
وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون [ الأعراف : 198 ] ، فإن المعتزلة احتجوا بها على نفي الرؤية ، فإن النظر في قوله تعالى : إلى ربها ناظرة [ القيامة : 23 ] ، لا يستلزم الإبصار . ورد بأن المعنى أنها تنظر إليه بإقبالها عليه ، وليست تبصر شيئا .
ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون [ البقرة : 102 ] ، فإنه وصفهم أولا بالعلم على سبيل التوكيد القسمي ، ثم نفاه آخرا عنهم لعدم جريهم على موجب العلم . قاله السكاكي .
الرابع : قالوا : المجاز يصح نفيه ، بخلاف الحقيقة ، وأشكل على ذلك : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [ الأنفال : 17 ] ، فإن المنفي فيه الحقيقة .
وأجيب : بأن المراد بالرمي هنا المترتب عليه ؛ وهو وصوله إلى الكفار ، فالوارد عليه النفي هنا مجاز لا حقيقة ، والتقدير : وما رميت خلقا إذ رميت كسبا ، أو ما رميت انتهاء إذ رميت ابتداء .
[ ص: 136 ] الخامس : نفي الاستطاعة قد يراد به نفي القدرة والإمكان ، وقد يراد به نفي الامتناع ، وقد يراد به الوقوع بمشقة وكلفة .
من الأول : فلا يستطيعون توصية [ يس : 50 ] ، فلا يستطيعون ردها [ الأنبياء : 40 ] ، فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا [ الكهف : 97 ] .
ومن الثاني : هل يستطيع ربك [ المائدة : 112 ] ، على القراءتين ، أي : هل يفعل أو هل تجيبنا إلى أن تسأل ؟ فقد علموا أنه قادر على الإنزال ، وأن عيسى قادر على السؤال .
ومن الثالث : إنك لن تستطيع معي صبرا [ الكهف : 67 ] .