الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب قول الله عز وجل: يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ  

ذكر الحاكم أبو عبد الله الحليمي رحمه الله في معنى قوله: إلا ما شاء ربك  وجهين: أحدهما أن الله تبارك وتعالى لما أخبر عن اليوم الموعود بأن الذين شقوا في النار، والذين سعدوا في الجنة، كان الذي يقتضيه هذا الظاهر أن دخول كل واحد من الفريقين الدار المعدة لهم يقترن بإتيان ذلك اليوم، وليس كذلك؛ لأن دخولهم حيث أعد لهم يتأخر طويلا بعد إتيان اليوم الموعود، فقال جل ثناؤه: إلا ما شاء ربك ، أي إلا ما شاء ربك من وقفهم حيث كانوا فيه، إلى أن حوسبوا ووزنت أعمالهم، وسيق كل فريق إلى حيث قضي له، لئلا يعارض الخبر المتقدم خلق ومن قال هذا قال: إن قوله: ما دامت السماوات والأرض ، لم يرد أنهم يبقون حيث ذكر وسمى قدر ما بقيت السماوات والأرض؛ لأن التوقيت ينافي الخلود، وإنما ذلك عبارة عن طول مدة بقائهم، فضرب للمخاطبين مثل ذلك بمدة بقاء السماوات والأرض؛ إذ لم يكن فيما يعلمونه من خلق الله جل ثناؤه، ويعرفون حاله أطول بقاء منهما، ولم يكن في جملتهم شيء أخبرونا أنه ليس بمنقض، فيضرب لهم مثل الجنة والنار به، فهذا القدر هو المراد لا أن بقاء أهل الجنة في الجنة، وأهل النار [ ص: 332 ] في النار، كائن إلى وقت ثم ينقضي، لكنه دائم باق، ولا انقضاء له، والله أعلم. والوجه الآخر، أن المعنى خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك من الزيادة عليه، ألا ترى أنه قال في أهل الجنة: عطاء غير مجذوذ ، أي غير مقطوع، فلو كان المعنى أنهم يقيمون قدر ما دامت السماوات والأرض ثم يخرجون، كان العطاء مجذوذا، فلما أخبر أنه غير مجذوذ علمنا أن معنى الاستثناء ما ذكرنا والله أعلم. ومن قال هذا قال: إلا بمعنى سوى، وذلك يحسن إذا كان المستثنى أكثر من المستثنى منه، كرجل يقول: لفلان علي ألف درهم إلا الألفين التي هي إلى سنة، فيكون المعنى سوى الألفين، وعلى هذا يكون قوله تبارك وتعالى في أهل النار: إن ربك فعال لما يريد بمعنى: إنهم خالدون في النار ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الزيادة على ذلك، فلا يتعاظمنكم ذلك أمره؛ فإنه يفعل ما يريد، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، قال: ويحتمل أن يكون ذكر مدة السماوات والأرض في هذا الوجه إشارة إلى أن الآخرة لا تتقدر بمقدار الدنيا، لكنهم إن استوفوا في الجنة والنار مدة العالم المنقضي، فلا الجزاء الذي لقوه بمنقض، ولا المآب الذي أعد لهم منقض، ولكن هذا كله دائم، والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية