[ ص: 35 ] باب
ذكر البيان عن إعجام الحروف ، ونقطها بالسواد
حدثنا أبو الفتح شيخنا ، قال : نا أحمد بن محمد ، قال : نا أحمد بن عثمان ، قال : نا الفضل بن شاذان ، قال : نا محمد بن عيسى ، قال : نا إبراهيم بن موسى ، قال : نا ، قال : نا الوليد بن مسلم ، قال : سمعت الأوزاعي يقول : كان القرآن مجردا في المصاحف ، فأول ما أحدثوا فيه النقط على الياء والتاء ، وقالوا : لا بأس به ، هو نور له . يحيى بن أبي كثير
قال : النقط عند العرب إعجام الحروف في سمتها . وقد روي عن أبو عمرو هشام الكلبي أنه قال : أسلم بن خدرة أول من وضع الإعجام والنقط .
وروي عن أنه قال : الألف ليس عليها شيء من النقط ؛ لأنها لا تلابسها صورة أخرى . والباء تحتها واحدة . والتاء فوقها اثنتان . والثاء ثلاث . والجيم تحتها واحدة . والخاء فوقها واحدة . والذال فوقها واحدة . والشين فوقها ثلاث . والضاد فوقها واحدة . والفاء إذا وصلت فوقها واحدة ، وإذا انفصلت لم تنقط ؛ لأنها لا يلابسها شيء من الصور . والقاف إذا وصلت فتحتها واحدة ، وقد نقطها ناس من فوقها اثنتين ، فإذا فصلت لم تنقط ؛ لأن [ ص: 36 ] صورتها أعظم من صورة الواو ، فاستغنوا بعظم صورتها عن النقط . والكاف لا تنقط ؛ لأنها أعظم من الدال والذال . واللام لا تنقط ؛ لأنها لا يشبهها شيء من الحروف . والميم لا تنقط أيضا ؛ لأنها لا تشبه شيئا من الحروف ، وقصتها قصة اللام . والنون إذا وصلتها فوقها واحدة ؛ لأنها تلتبس بالباء والتاء والثاء ، فإذا فصلت لم تنقط ، استغنوا بعظم صورتها ؛ لأن صورتها أعظم من الراء والزاي . والواو لا تنقط ؛ لأنها أصغر من القاف ، فلم تشتبه بشيء من الحروف . والهاء لا تنقط ؛ لأنها لا تشبه شيئا من الحروف ، وقصتها قصة الواو . ولام ألف حرفان قرنا ، فليس واحد منهما ينقط . والياء إذا وصلت نقطت تحتها اثنتين ؛ لئلا تلتبس بما مضى ، فإذا فصلت لم تنقط . الخليل بن أحمد
وقال غير : حروف المعجم ثمانية وعشرون حرفا مختلفة منفردة في التهجي ، وهي سواكن . وقد دخل فيها لام ألف موصولين ؛ لانفرادهما في الصورة . وهي أربعة أصناف : صنف منها ستة أحرف متباينة ، لا تحتاج إلى الفصل بينها وبين غيرها بشيء من النقط : ( ا ك ل م و هـ ) . وصنف منها سبعة أحرف متلابسة مخلاة : ( ح د ر س ص ط ع ) . وصنف منها أحد عشر حرفا متلابسة ، يفصل بينها وبين ما قبلها من المتلابسين بالنقط : ( ب ت ث ج خ ذ ز ش ض ظ غ ) . وصنف منها أربعة أحرف تخلى إذا لم يوصل بها شيء ، وتنقط إذا وصل بها غيرها : ( ف ق ن ي ) . فجميع ما ينقط منها لالتباسها بغيرها خمسة عشر حرفا ؛ منها ثمانية أحرف ، كل حرف منها بنقطة واحدة : ( خ ذ ز ض ظ غ ف ن ) . واثنان بنقطتين من فوقهما : ( ت [ ص: 37 ] ق ) . واثنان بثلاث نقط من فوقهما : ( ث ش ) . واثنان بواحدة من تحتهما : ( ب ج ) . وحرف واحد بنقطتين من تحته : ( ي ) . الخليل
قال : أهل المشرق ينقطون الفاء بواحدة من فوقها ، والقاف باثنتين من فوقها . وأهل أبو عمرو المغرب ينقطون الفاء بواحدة من تحتها ، والقاف بواحدة من فوقها ؛ وكلهم أراد الفرق بينهما بذلك .
ورأيت بعض العلماء قد علل النقط ، فقال : اعلم أن الباء ، والتاء ، والثاء ، والنون ، والياء خمسة أحرف متشابهة الصور في الكتابة ، فلأجل ذلك احتيج أن يفرق بالنقط المختلف بينها ، فواخوا بين الباء والنون ، وبين التاء والياء ، فنقطوا الباء واحدة من تحت ، والنون واحدة من فوق ، ونقطوا التاء اثنتين من فوق ، والياء اثنتين من تحت ، وبقيت الثاء منفردة لا أخت لها ، فنقطوها ثلاثا من فوق ؛ إذ خلت من أخت ، ولم تخل من شبه .
ثم جاؤوا إلى الجيم والحاء والخاء ، وهن ثلاثة أحرف متشابهة الصور ، ليس في حروف المعجم ما يشبههن ؛ فابتدؤوا بالأولى وهي الجيم ، فنقطوها بواحدة من تحت ، واختاروا أن يجعلوا النقطة من تحت ؛ لأن الجيم مكسورة . وأخلوا الحاء من النقط ؛ فرقا بينها وبين الجيم . وأما الخاء فاختاروا لها النقط من فوق ؛ لأن اللفظ بالخاء مفتوح .
ثم جاؤوا إلى الدال والذال ، وهما حرفان متشابهان ؛ فأخلوا الدال من النقط ؛ فرقا بينها وبين أختها ، ولأن ما قبلها منقوط . ونقطوا الذال واحدة من فوق ؛ لأن اللفظ بها مفتوح . [ ص: 38 ] ثم فعلوا بالراء والزاي ، كما فعلوا في الدال والذال .
ثم جاؤوا إلى السين والشين ، وهما حرفان مشتبهان ؛ فأخلوا السين - وهو الحرف الأول - من النقط ؛ فرقا بينها وبين أختها ، ونقطوا الشين بثلاث من فوق ؛ لأنه حرف واحد ، صورته صورة ثلاثة أحرف . واختاروا النقط لها من فوق ، ولفظها مكسور ؛ لأنها من بين الحروف المزدوجة كثيرة النقط ، مخالفة في ذلك سائر المنقوط من المزدوج والمنفرد ، إلا الثاء فإن علتها مخالفة لعلة الشين .
ثم جاؤوا إلى الصاد والضاد ، ففعلوا فيهما كما فعلوا في الدال والذال ؛ إذ العلة فيهما وفي الدال والذال واحدة .
وفعلوا في الطاء والظاء ، والعين والغين ، كفعلهم في الدال والذال أيضا ، والعلة في الكل علة واحدة .
ثم جاؤوا إلى الفاء والقاف ، وهما حرفان ، في الانفراد تختلف صورتهما ، وفي أول الكلام ووسطه يشتبهان . فإذا وقع أحدهما في آخر كلمة ، متصلا بما قبله ، عاد إلى صورته في الانفراد . فلما اختلفت صورتهما في موضع ، واتفقت في موضع ؛ اختاروا لهما جميعا النقط ، وخولف بين نقطهما ليفرق به بينهما ، فنقطوا الفاء واحدة من فوق ، ونقطوا القاف اثنتين من فوق ، وجعلوا نقط الجميع من فوق ؛ لأن مخرج لفظهما مفتوح .
ثم جاؤوا إلى الكاف ، فوجدوا صورتها مفردة ، لا تشتبه بصورة حرف من [ ص: 39 ] حروف المعجم ، فأخلوه من النقط ؛ لانفراده بصورته ، لأنه يتصل بأوائل الكلام وأوساطه وأواخره ، لا ينفرد بذاته إلا في أواخر الكلام ، ولا يقع في أوائل الكلام كوقوع الألف ، وهو في انفراده بشكله مثله ، فأجروه في الإخلاء من النقط مجراه .
ثم جاؤوا إلى اللام ، وهو حرف منفرد الشكل ، علته علة الكاف ، فأجروه في الإخلاء من النقط مجرى الألف والكاف .
ثم جاؤوا إلى الميم ، وهو حرف منفرد ، لا شبيه له ، علته علة الكاف واللام ، فأخلوه من النقط ، وأجروه مجراهما .
ثم جاؤوا إلى الواو ، وهو حرف يشبه القاف في الانفراد ، وفي أواخر الكلام ، ويخالف شبهه في أول الكلام ووسطه ، فكانت موافقته للقاف في المواضع التي تخالف القاف فيها الفاء لا غير ، فأخلوه من النقط ؛ إذ كان شبهه في الانفراد وفي أواخر الكلام - وهو القاف - منقوطا .
ثم جاؤوا إلى الهاء ، وهو حرف منفرد ، لا شبه له في حروف المعجم ، له في الكتابة صورتان مختلفتان ، في ابتداء الكلام وفي وسطه مشقوق ، وفي آخره مدور غير مشقوق ، فأخلوه من النقط لخلو شبهه ، واختلاف صورته ، وجعلوا الخط الذي يشق به إذا وقع في أوائل الكلام ووسطه عوضا من النقط عند اختلاف الصورة .
قال : ولو احتج محتج في هذا الحرف ، فقال : قد كان يجب أن ينقط هذا ؛ لأن صورته تختلف في الكتابة ، وما اختلف من الحروف المفردة في [ ص: 40 ] موضع ، واتفق في موضع ؛ احتاج إلى النقط ؛ ليستدل به . قيل له : قد قلنا : إن الباء والتاء نقطا بواحدة واثنتين لعلة شبههما بالياء والنون ، ونقطت الثاء بثلاث نقط ؛ لأن لها أربعة أمثلة منقوطة من جنسين ، أكثره بنقطتين ، فاختير لها ثلاث نقط ، لهذه العلة . وليس في حروف المعجم حرف صورته صورة حرف واحد نقط بثلاث نقط غيره . ونقطت الشين بثلاث ؛ لعلة شبهها بالسين . واختير لها ثلاث نقط ؛ لأن صورتها صورة ثلاثة أحرف . وسائر الحروف المزدوجة والمنفردة أكثر نقطها اثنتان . وهذا الحرف - يعني الهاء - صورته صورة حرف واحد ، فبطل أن ينقط بواحدة لانفراده ، وبطل أن ينقط باثنتين لعلة شبهه ، وبطل أن ينقط بثلاث نقط فما فوقها لعلة صورته ؛ فاحتاج أن يخلى من النقط .
قال : وكل هذا لطيف حسن . أبو عمرو
فإن قال قائل : لم نقطت الباء بواحدة من تحتها ؟ هلا نقطت من فوقها ، ونقطت النون من تحتها مكان ذلك ، فرقا بينهما ؟ قيل له : إنما نقطت بواحدة لما تقدم من قولنا : إنها أول الصور الثلاث ، وإن التاء ثانيتها ، والثاء ثالثتها ، ولذلك نقطت التاء اثنتين ، والثاء ثلاثا . وإنما نقطت من تحتها ؛ للزوم الكسر لها ، إذا كانت زائدة جارة ، كالتي في أول التسمية . وإنما لزمها الكسر اتباعا لعملها ، إذ كانت لا تعمل إلا جرا ، فجعل نقطها [ ص: 41 ] موافقا لحركتها ، وألزما مكانا واحدا لذلك . ولهذه العلة نقط أهل المغرب الفاء من تحتها ، إذ كان الكسر والياء أيضا قد يلحقان بها ، إذا كانت جارة ، وحمل نقطها على ذلك في كل مكان .
فإن قيل : لم نقطوا الياء باثنتين من تحتها ؟ قيل : لتميز بذلك من الباء التي تنقط واحدة من تحتها ، ومن التاء التي تنقط اثنتين من فوقها ، ولمؤاخاتها في المخرج الجيم التي تنقط بواحدة من تحتها ، لكون لفظها مكسورا . وبالله التوفيق .