وأما المؤمن فهو مع قدرته له من الإرادة الصالحة والعلوم النافعة
[ ص: 253 ] ما يوجب طمأنينة قلبه وانشراح صدره ، بما يفعله من الأعمال الصالحة ، وله من الطمأنينة وقرة العين ما لا يمكن وصفه . وهو مع عجزه أيضا له من أنواع الإرادات الصالحة والعلوم النافعة التي يتنعم بها ما لا يمكن وصفه ، وكل هذا محسوس مجرب . وإنما يقع غلط أكثر الناس لأنه قد أحس بظاهر من لذات أهل الفجور وذاقها ، ولم يذق لذات أهل البر ولم يحسها ، ولكن أكثر الناس جهال لا يسمعون ولا يعقلون .
وهذا الجهل لعدم شهود حقيقة الإيمان ووجود حلاوته وذوق طعمه انضم إليه أيضا جهل كثير من المتكلمين في العلم بحقيقة ما في أمر الله من المصلحة والمنفعة ، وما في خلقه أيضا لعبده المؤمن من المنفعة والمصلحة ، فاجتمع الجهل بما أخبر الله به من خلقه وأمره ، وبما أشهده الله عباده من موجوده ، فكان هذا الجهل مع ما في النفوس من الظلم مانعا للنفوس عن عظيم نعمة الله وكرامته ورضوانه ، موقعا لها في بأسه وعذابه وسخطه .
وذلك أن
nindex.php?page=treesubj&link=28789_19144_30451الناس لما خاضوا في مسألة القدر ، ولم يخلق الله ولم يأمر ؟ ونحو ذلك ، بغير هدى من الله الذي أنزله إليهم ، فرقوا دينهم وكانوا شيعا :
فزعم فريق منهم أنه لا يخلق أحدا من الأشخاص إلا لأجل مصلحة المخلوق ، ولا يأمره إلا لأن أمره مصلحة له أيضا ، وإنما العبد
[ ص: 254 ] هو صرف عن نفسه مصلحة نفسه ، وفعل مفسدة نفسه ، بغير قدرة الرب وبغير مشيئته . وهم إنما قصدوا بها تنزيه الرب سبحانه وتعالى عن الظلم والعبث ، ووصفه بالحكمة والعدل والإحسان ، لكن سلبوه علمه وقدرته وكتابه وخلقه ونفوذ مشيئته وعمومها ، فقال قوم منهم : إنه لم يعلم فلم يكتب ما يكون من العباد حتى فعلوه . وقال آخرون : بل علم ذلك ، وعلم أنهم لا يطيعونه ولا يفعلون إلا ما يضرهم ، ومع هذا فقصد تعريفهم بالخلق والأمر للمنفعة الخالصة الدائمة .
فقال لهم الناس : من علم أن مقصوده من الخير لا يكون ، وقد سعى في حصوله بمنتهى قدرته ، كان من أجهل الفاعلين وأسفههم ، فنزهوه عن قليل من السفه بالتزام ما هو أكبر منه ، وزعموا أنه لا يقدر إلا على ما فعل بهم ، فسلبوه قدرته .
فرد على هؤلاء طائفة من أهل الإثبات ، فأثبتوا عموم قدرته وعموم مشيئته وخلقه وعلمه القديم ، وكل هذا خير موافق للكتاب والسنة ، وهذا من تمام الإيمان بالقدر ، بعلم الله القديم ومشيئته وخلقه لكل شيء وقدرته . لكن ضموا إلى ذلك أشياء ليست من السنة ، فإنه من السنة أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وأنه يأمر العباد بطاعته ، ومع هذا فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، كما قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=25والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [يونس :25] .
[ ص: 255 ]
فزعموا مع ذلك أنه يخلق الخلق لا لحكمة في خلقهم ، ولا لرحمة لهم ، بل قد يكون خلقهم ليضرهم كلهم . وهذا عندهم حكمة ، فلم ينزهوه عما نزه نفسه عنه من الظلم ، حيث أخبر أنه إنما يجزي الناس بأعمالهم ، وأنه
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=164ولا تزر وازرة وزر أخرى [الأنعام :164] . وأنه
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=112ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما [طه :112] .
بل زعموا أن كل مقدور عليه فليس بظلم ، مثل تعذيب الأنبياء والرسل وتكريم الكفار والمنافقين ، وغير ذلك مما نزه الله نفسه عنه ، فلم يكن الظلم الذي نزه الله عنه نفسه حقيقة عند هؤلاء ، إذ كل ما يمكن ويقدر عليه فليس بظلم . فقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=31وما الله يريد ظلما للعباد [غافر :31] عندهم بمنزلة قوله : لا يريد ما لا يكون ممكنا مقدورا عليه ، وهو عندهم لا يقدر على الظلم حتى يكون تاركا له .
وزعموا أنه قد يأمر العباد بما لا يكون مصلحة لهم ولا لواحد منهم ، لا يكون الأمر مصلحة ، ولا يكون فعل المأمور به مصلحة ، بل قد يأمرهم بما إن فعلوه كان مضرة لهم ، وإن لم يفعلوه عاقبهم ، فيكون العبد فيما يأمره به بين ضررين : ضرر إن أطاع ، وضرر إن عصى ، ومن كان كذلك كان أمر العباد مضرة لهم لا مصلحة لهم .
وقالوا : يأمر بما يشاء ، وأنكروا أن يكون في الأحكام الشرعية من العلل المناسبة للأحكام ، من جلب المنافع ودفع المضار ما هي الشريعة ممتلئة به ، حتى كان منهم من دفع علل الأحكام بالكلية ، ومنهم من قال :
[ ص: 256 ]
العلل مجرد علامات ودلالات على الحكم ، لا أنها أمور تناسب الحكم وتلائمه .
وهم يجوزون مع هذا أن لا يكون للعبد ثواب ومنفعة في فعل المأمور به ، لكن لما جاءت الشريعة بالوعد قالوا : هو موعود بالثواب الذي وعد به ، وربما قالوا : إنه في الآخرة فقط ، وأما الفعل المأمور به فقد لا يكون مصلحة للعباد ولا منفعة لهم بحال ، فلا يكون فيه تنعم لهم ولا لذة بحال ، بل قد تكون مضرة لهم ومفسدة في حقهم ، ليس فيه إلا ما يؤلمهم .
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَهُوَ مَعَ قُدْرَتِهِ لَهُ مِنَ الْإِرَادَةِ الصَّالِحَةِ وَالْعُلُومِ النَّافِعَةِ
[ ص: 253 ] مَا يُوجِبُ طُمَأْنِينَةَ قَلْبِهِ وَانْشِرَاحَ صَدْرِهِ ، بِمَا يَفْعَلُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَلَهُ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ وَقُرَّةِ الْعَيْنِ مَا لَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ . وَهُوَ مَعَ عَجْزِهِ أَيْضًا لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِرَادَاتِ الصَّالِحَةِ وَالْعُلُومِ النَّافِعَةِ الَّتِي يَتَنَعَّمُ بِهَا مَا لَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ ، وَكُلُّ هَذَا مَحْسُوسٌ مُجَرَّبٌ . وَإِنَّمَا يَقَعُ غَلَطُ أَكْثَرِ النَّاسِ لِأَنَّهُ قَدْ أَحَسَّ بِظَاهِرٍ مِنْ لَذَّاتِ أَهْلِ الْفُجُورِ وَذَاقَهَا ، وَلَمْ يَذُقْ لَذَّاتِ أَهْلِ الْبِرِّ وَلَمْ يُحِسَّهَا ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ جُهَّالٌ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ .
وَهَذَا الْجَهْلُ لِعَدَمِ شُهُودِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَوُجُودِ حَلَاوَتِهِ وَذَوْقِ طَعْمِهِ انْضَمَّ إِلَيْهِ أَيْضًا جَهْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ مَا فِي أَمْرِ اللَّهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَنْفَعَةِ ، وَمَا فِي خَلْقِهِ أَيْضًا لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ ، فَاجْتَمَعَ الْجَهْلُ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ ، وَبِمَا أَشْهَدَهُ اللَّهُ عِبَادَهُ مِنْ مَوْجُودِهِ ، فَكَانَ هَذَا الْجَهْلُ مَعَ مَا فِي النُّفُوسِ مِنَ الظُّلْمِ مَانِعًا لِلنُّفُوسِ عَنْ عَظِيمِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ وَرِضْوَانِهِ ، مُوقِعًا لَهَا فِي بَأْسِهِ وَعَذَابِهِ وَسَخَطِهِ .
وَذَلِكَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28789_19144_30451النَّاسَ لَمَّا خَاضُوا فِي مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ ، وَلِمَ يَخْلُقُ اللَّهُ وَلِمَ يَأْمُرُ ؟ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ ، فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا :
فَزَعَمَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ أَحَدًا مِنَ الْأَشْخَاصِ إِلَّا لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْمَخْلُوقِ ، وَلَا يَأْمُرُهُ إِلَّا لِأَنَّ أَمْرَهُ مَصْلَحَةٌ لَهُ أَيْضًا ، وَإِنَّمَا الْعَبْدُ
[ ص: 254 ] هُوَ صَرَفَ عَنْ نَفْسِهِ مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ ، وَفَعَلَ مَفْسَدَةَ نَفْسِهِ ، بِغَيْرِ قُدْرَةِ الرَّبِّ وَبِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ . وَهُمْ إِنَّمَا قَصَدُوا بِهَا تَنْزِيهَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ الظُّلْمِ وَالْعَبَثِ ، وَوَصْفَهُ بِالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ، لَكِنْ سَلَبُوهُ عِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ وَكِتَابَهُ وَخَلْقَهُ وَنُفُوذَ مَشِيئَتِهِ وَعُمُومَهَا ، فَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ : إِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ فَلَمْ يَكْتُبْ مَا يَكُونُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى فَعَلُوهُ . وَقَالَ آخَرُونَ : بَلْ عَلِمَ ذَلِكَ ، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُطِيعُونَهُ وَلَا يَفْعَلُونَ إِلَّا مَا يَضُرُّهُمْ ، وَمَعَ هَذَا فَقَصَدَ تَعْرِيفَهُمْ بِالْخَلْقِ وَالْأَمْرُ لِلْمَنْفَعَةِ الْخَالِصَةِ الدَّائِمَةِ .
فَقَالَ لَهُمُ النَّاسُ : مَنْ عَلِمَ أَنَّ مَقْصُودَهُ مِنَ الْخَيْرِ لَا يَكُونُ ، وَقَدْ سَعَى فِي حُصُولِهِ بِمُنْتَهَى قُدْرَتِهِ ، كَانَ مِنْ أَجْهَلِ الْفَاعِلِينَ وَأَسْفَهِهِمْ ، فَنَزَّهُوهُ عَنْ قَلِيلٍ مِنَ السَّفَهِ بِالْتِزَامِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ إِلَّا عَلَى مَا فَعَلَ بِهِمْ ، فَسَلَبُوهُ قُدْرَتَهُ .
فَرَدَّ عَلَى هَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ ، فَأَثْبَتُوا عُمُومَ قُدْرَتِهِ وَعُمُومَ مَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ وَعِلْمِهِ الْقَدِيمِ ، وَكُلُّ هَذَا خَيْرٌ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ ، بِعِلْمِ اللَّهِ الْقَدِيمِ وَمَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ وَقُدْرَتِهِ . لَكِنْ ضَمُّوا إِلَى ذَلِكَ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنَ السُّنَّةِ ، فَإِنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ، وَأَنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ، وَأَنَّهُ يَأْمُرُ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ، كَمَا قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=25وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يُونُسَ :25] .
[ ص: 255 ]
فَزَعَمُوا مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَخْلُقُ الْخَلْقَ لَا لِحِكْمَةٍ فِي خَلْقِهِمْ ، وَلَا لِرَحْمَةٍ لَهُمْ ، بَلْ قَدْ يَكُونُ خَلْقُهُمْ لِيَضُرَّهُمْ كُلَّهُمْ . وَهَذَا عِنْدَهُمْ حِكْمَةٌ ، فَلَمْ يُنَزِّهُوهُ عَمَّا نَزَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ مِنَ الظُّلْمِ ، حَيْثُ أَخْبَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَجْزِي النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ ، وَأَنَّهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=164وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الْأَنْعَامِ :164] . وَأَنَّهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=112وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا [طَهَ :112] .
بَلْ زَعَمُوا أَنَّ كُلَّ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِظُلْمٍ ، مِثْلَ تَعْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَتَكْرِيمِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ ، فَلَمْ يَكُنِ الظُّلْمُ الَّذِي نَزَّهَ اللَّهُ عَنْهُ نَفْسَهُ حَقِيقَةً عِنْدَ هَؤُلَاءِ ، إِذْ كُلُّ مَا يُمْكِنُ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِظُلْمٍ . فَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=31وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ [غَافِرٍ :31] عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : لَا يُرِيدُ مَا لَا يَكُونُ مُمْكِنًا مَقْدُورًا عَلَيْهِ ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الظُّلْمِ حَتَّى يَكُونَ تَارِكًا لَهُ .
وَزَعَمُوا أَنَّهُ قَدْ يَأْمُرُ الْعِبَادَ بِمَا لَا يَكُونُ مَصْلَحَةً لَهُمْ وَلَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ ، لَا يَكُونُ الْأَمْرُ مَصْلَحَةً ، وَلَا يَكُونُ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ مَصْلَحَةً ، بَلْ قَدْ يَأْمُرُهُمْ بِمَا إِنْ فَعَلَوْهُ كَانَ مَضَرَّةً لَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوهُ عَاقَبَهُمْ ، فَيَكُونُ الْعَبْدُ فِيمَا يَأْمُرُهُ بِهِ بَيْنَ ضَرَرَيْنِ : ضَرَرٌ إِنْ أَطَاعَ ، وَضَرَرٌ إِنْ عَصَى ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَمْرُ الْعِبَادِ مَضَرَّةً لَهُمْ لَا مَصْلَحَةً لَهُمْ .
وَقَالُوا : يَأْمُرُ بِمَا يَشَاءُ ، وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْعِلَلِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْأَحْكَامِ ، مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مَا هِيَ الشَّرِيعَةُ مُمْتَلِئَةٌ بِهِ ، حَتَّى كَانَ مِنْهُمْ مَنْ دَفَعَ عِلَلَ الْأَحْكَامِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ :
[ ص: 256 ]
الْعِلَلُ مُجَرَّدُ عَلَامَاتٍ وَدَلَالَاتٍ عَلَى الْحُكْمِ ، لَا أَنَّهَا أُمُورٌ تُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَتُلَائِمُهُ .
وَهُمْ يُجَوِّزُونَ مَعَ هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْعَبْدِ ثَوَابٌ وَمَنْفَعَةٌ فِي فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، لَكِنْ لَمَّا جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِالْوَعْدِ قَالُوا : هُوَ مَوْعُودٌ بِالثَّوَابِ الَّذِي وُعِدَ بِهِ ، وَرُبَّمَا قَالُوا : إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ فَقَطْ ، وَأَمَّا الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ فَقَدْ لَا يَكُونُ مَصْلَحَةً لِلْعِبَادِ وَلَا مَنْفَعَةً لَهُمْ بِحَالٍ ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ تَنَعُّمٌ لَهُمْ وَلَا لَذَّةٌ بِحَالٍ ، بَلْ قَدْ تَكُونُ مَضَرَّةً لَهُمْ وَمَفْسَدَةً فِي حَقِّهِمْ ، لَيْسَ فِيهِ إِلَّا مَا يُؤْلِمُهُمْ .