[ ص: 159 ] فصل في اسمه تعالى "القيوم"   [ ص: 160 ]  [ ص: 161 ] فصل 
في اسمه تعالى "القيوم" 
وقد قرأ طائفة "القيام" و"القيم" ، وكلها مبالغات في القائم وزيادة . قال الله تعالى : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط  ، أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت   . فهو قائم بالقسط وهو العدل ، وقائم على كل نفس بما كسبت ، وقيامه بالقسط على كل نفس يستلزم قدرته ، فدل هذا الاسم على أنه قادر وأنه عادل . 
وسنبين أن عدله يستلزم الإحسان ، وأن كل ما يفعله فهو إحسان للعباد ونعمة عليهم . ولهذا يقول عقيب ما يعدده من النعم على العباد : فبأي آلاء ربكما تكذبان  ، وآلاؤه هي نعمه ، وهي متضمنة لقدرته ومشيئته ، كما هي مستلزمة لرحمته وحكمته . 
وأيضا فلفظ "القيام" يقتضي شيئين : القوة والثبات والاستقرار ، ويقتضي العدل والاستقامة ، فالقائم ضد الواقع ، كما أنه ضد الزائل ،  [ ص: 162 ] والمستقيم ضد المعوج المنحرف ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :  "ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن ، إن شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه"  . ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا  ، وقال : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم   . 
ومنه تقويم السهم والصف ، وهو تعديله ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول :  "أقيموا صفوفكم ، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة"  . وكان يقوم الصف كما يقوم القدح . 
ومنه الصراط المستقيم والاستقامة ، وهذا من هذا ، كما قال تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم  من طريقة أهل التوراة . 
وما يهدي إليه القرآن أقوم مما يهدي إليه الكتاب الذي [قبله] ، وإن كان ذلك يهدي إلى الصراط المستقيم ، لكن القرآن يهدي للتي هي أقوم . ولهذا ذكر هذا بعد قوله : وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل  ، ثم قال : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم   .  [ ص: 163 ] 
ولما كان القيام بالأمور بطريقة القرآن يقتضي شيئين : القوة والثبات ، مع العدل والاستقامة ، جاء الأمر بذلك في مثل قوله : كونوا قوامين بالقسط شهداء لله  ، و كونوا قوامين لله شهداء بالقسط   . 
وقوله : وأقيموا الشهادة لله  يقتضي أنه يأتي بها تامة مستقيمة ، فإن الشاهد قد يضعف عن أدائها وقد يحرفها ، فإذا أقامها كان ذلك لقوته واستقامته . 
وكذلك إقام الصلاة يقتضي إدامتها والمحافظة عليها باطنا وظاهرا ، وأن يأتي بها مستقيمة معتدلة . ولما كانت صلاة الخوف فيها نقص لأجل الجهاد قال : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة  ، فإن الرجل قد يصلي ولا يقيم الصلاة لنقص طمأنينتها والسكينة فيها ، فلا تكون صلاته ثابتة مستقرة ، أو لنقص خضوعه لله وإخلاصه له ، فلا تكون معتدلة ، فإن رأس العدل عبادة الله وحده لا شريك له ، كما أن رأس الظلم هو الشرك ، إذ كان الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، ولا أظلم ممن وضع العبادة في غير موضعها فعبد غير الله ، فعبادة الله أصل العدل والاستقامة . قال تعالى : قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين  ، فأمر بإقامة الوجه له عند كل مسجد ،  [ ص: 164 ] وهو التوحيد وتوجيه الوجه إليه سبحانه ، فإن توجيهه إلى غيره زيغ . وبالإخلاص يكون العبد قائما ، وبالشرك زائغا ، كما قال : فأقم وجهك للدين حنيفا  ، وقال : فأقم وجهك للدين القيم   . 
وإقامته : توجيهه إلى الله وحده ، وهو أيضا إسلامه ، فإن إسلام الوجه لله يقتضي إخضاعه له وإخلاصه له . 
وفي القرآن إقامة الوجه ، وفيه توجيهه لله وإسلامه لله ، وتوجيهه وإسلامه هو إقامته ، وهو ضد إزاغته . فلما كانت الصلاة تضمنت هذا وهذا ، وهو عبادته وحده وإخلاص الدين له وتوجيه الوجه إليه ، كما فيها هذا العدل ، فلا بد من هذا ولا بد من الطمأنينة فيها ، وهي إنما تكون مقامة بهذا ، وهذا هو الخضوع ، فإن الخشوع يجمع معنيين : أحدهما الذل والخضوع والتواضع ، والثاني السكون والثبات . ومنه قوله تعالى : خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة  ، وقوله : خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي  ، وهو الانخفاض والسكون . ومنه خشوع الأرض ، وهو سكونها وانخفاضها ، فإذا أنزل عليها الماء اهتزت بدل السكون ، وربت بدل الانخفاض . 
وقال : كونوا قوامين بالقسط  ، قوامين لله   . و"القوام"  [ ص: 165 ] هو القيام ، فإن "قيام" و"قيوم" أصله قيوام وقيووم ، ولكن اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما بالأخرى ، لأن الياء أخف من الواو . قال الفراء : وأهل الحجاز يصرفون الفعال إلى الفيعال ، ويقولون للصواغ : صياغ . 
قلت : هذا إذا أرادوا الصفة ، وهي ثبات المعنى للموصوف ، عدلوا عن "فعال" إلى "فيعال" كما في سائر الصفات المعدولة ، فإن من هذا قلب المضعف حرف عينه ، والحروف المختلفة أبلغ من حرف واحد مشدد . وأما إذا أرادوا الفعل فهو كما قال تعالى : كونوا قوامين بالقسط  ، ولم يقل "قيامين" . 
وقد قرأ طائفة من السلف : "الحي القيام" ، ولم يقرأ أحد قط : "كونوا قيامين بالقسط" ، لأن المقصود أمرهم أن يقوموا بالقسط ، والأمر طلب فعل يحدثه المأمور . بخلاف الخبر عن الموصوف بأنه صياغ ، فإنه خبر عن صفة ثابتة له . ولهذا جاء في أسماء الله "القيام" ، ولم يجئ "القوام" ، قرأ  عمر بن الخطاب  وغير واحد "القيام" ، وقرأ طائفة "القيم" . قال  ابن الأنباري   : هي كذلك في مصحف  ابن مسعود   . ومن دعاء النبي   - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين :  "ولك الحمد ، أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن"  . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					