فصل 
قال النبي صلى الله عليه وسلم  لحكيم بن حزام   : «لا تبع ما ليس عندك  » ، لما قال له : يأتيني الرجل فيطلب مني البيع ليس عندي فأبيعه منه ، ثم أذهب إلى السوق فأبتاعه ، فقال : «لا تبع ما ليس عندك » . وفي حديث  عبد الله بن عمرو  عن النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يحل سلف وبيع  ، ولا شرطان في بيع  ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا تبع ما ليس عندك » . 
وللناس في هذا الحديث أقوال : 
قيل : المراد بذلك أن يبيع السلعة المعينة التي هي مال الغير ، يبيعها إن ملكها ، فقال : «لا تبع ما ليس عندك » ، أي لا تبع ما لا تملكه من الأعيان . ونقل هذا التفسير عن  الشافعي  أنه يجوز السلم الحال ، وقد لا يكون عند المستسلف ما باعه . فحمله على الأعيان ، ليكون بيع ما في الذمة جائزا ، سواء كان حالا أو مؤجلا .  [ ص: 323 ] 
وقال آخرون : هذا ضعيف جدا ، فإن  حكيم بن حزام  ما كان يبيع شيئا معينا هو ملك لغيره ، ثم ينطلق فيشتريه منه ، ولا كان الذين يأتونه يقولون : نطلب عبد فلان أو دار فلان ، وإنما الذي يفعله الناس أن يأتيه الطالب فيقول : أريد طعاما كذا وكذا ، أو ثوبا كذا وكذا ، وغير ذلك . فيقول : نعم أعطيك ، فيبيعه منه ، ثم يذهب فيحصله من عند غيره إذا لم يكن عنده . هذا هو الذي يفعله من يفعله من الناس ، ولهذا قال : «يأتيني فيطلب مني البيع ليس عندي » ، لم يقل : يطلب مني ما هو مملوك لغيري . فالطالب طلب الجنس لم يطلب شيئا معينا ، كما جرت عادة الطالب لما يؤكل ويلبس ويركب ، إنما يطلب جنس ذلك ليس له غرض في ملك شخص بعينه ، دون ما سواه مما هو مثله أو خير منه . 
ولهذا صار  أحمد بن حنبل  وطائفة إلى القول الثاني ، فقالوا : الحديث على عمومه يقتضي النهي عن بيع ما في الذمة إذا لم يكن عنده  ، وهو يتناول النهي عن السلم إذا لم يكن عنده ، لكن جاءت الأحاديث في جواز السلم المؤجل ، فبقي هذا في السلم الحال . 
والقول الثالث -وهو أظهر الأقوال- : إن الحديث لم يرد به النهي عن السلم المؤجل ولا الحال مطلقا ، وإنما أريد به أن يبيع في الذمة ما ليس هو مملوكا له ولا يقدر على تسليمه ، ويربح فيه قبل أن يملكه ويقدر على تسليمه وتضمنه . فهو نهي عن السلم الحال إذا لم يكن عند المستسلف ما باعه ، فيلزم ذمته بشيء حال ويربح فيه ، وليس هو قادرا على إعطائه . وإذا ذهب يشتريه قد يحصل وقد لا يحصل ، فهو من نوع  [ ص: 324 ] الغرور والمخاطرة ، وهو إذا كان السلم حالا وجب تسليمه عليه في الحال ، وليس هو بقادر على ذلك ، ويربح فيه على أن يملكه فيضمنه . وربما أحاله على الذي ابتاع منه ، فلا يكون قد عمل شيئا ، بل أكل المال بالباطل . وعلى هذا فالسلم الحال إذا كان المسلم إليه قادرا على الإعطاء هو جائز ، وهو كما قال الشافعي : إذا جاز المؤجل فالحال أولى بالجواز . 
ومما يبين أن هذا مراد النبي صلى الله عليه وسلم أن السائل إنما سأله عن بيع شيء مطلق في الذمة كما تقدم ، لكن إذا لم يجوز بيع ذلك فبيع المعين الذي لم يملكه أولى بالمنع . وإذا كان إنما سأله عن بيع شيء في الذمة ، وإنما سأله عن بيعه حالا ، فإنه قال : أبيعه ثم أذهب فأبتاعه ، فقال له : «لا تبع ما ليس عندك » ، فلو كان السلف الحال لا يجوز مطلقا لقال ابتداء : «لا تبع هذا » سواء كان عنده أو ليس عنده ، فإن صاحب هذا القول يقول : بيع ما في الذمة حالا لا يجوز ولو كان عنده ما يسلمه ، بل إذا كان عنده فإنه لا يبيع إلا معينا ، لا يبيع شيئا في الذمة . فلما لم ينهه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك مطلقا ، بل قال : «لا تبع ما ليس عندك » علم أنه فرق بين ما هو عنده ويملكه ويقدر على تسليمه ، وما ليس كذلك ، وإن كان كلاهما في الذمة . 
ومن تدبر هذا تبين له أن القول الثالث هو الصواب . 
وإذا قيل : المؤخر جائز للضرورة ، وهو بيع المفاليس ، لأن البائع  [ ص: 325 ] احتاج إلى أن يبيع إلى أجل ، وليس عنده ما يبيعه الآن ، وأما الحال فيمكنه أن يحضر المبيع فيراه ، فلا حاجة لبيع موصوف في الذمة ، أو يبيع عينا موصوفة غائبة ، لا يبيع شيئا مطلقا ، بل هذا ممنوع ، فلا نسلم على خلاف الأصل ، بل تأجيل المبيع كتأجيل الثمن ، كلاهما من مصالح العالم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					