* وأيضا، فمن الخير الذي يحصل بها: دعاء الله والتضرع إليه.
كما قال تعالى: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون إلى قوله: ما كانوا يعملون [الأنعام: 42 – 43]، وقال تعالى: ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون [المؤمنون: 76].
ودعاء الله والتضرع إليه من أعظم النعم.
فهذه النعمة والتي قبلها من أعظم صلاح الدين؛ فإن صلاح الدين في أن يعبد الله، ويتوكل عليه، ولا يدع مع الله إله آخر، لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة.
فإذا حصلت لك التوبة التي مضمونها أن تعبد الله وحده، وتطيع رسله، بفعل المأمور وترك المحظور، كنت ممن يعبد الله. [ ص: 409 ]
وإذا حصل لك الدعاء الذي هو سؤال الله حاجاتك، فتسأله ما تنتفع به، وتستعيذ به مما تستضر به، كان هذا من أعظم نعم الله عليك.
وهذا كثيرا ما يحصل بالمصائب؛ لأمرين:
* أما الأول، فإن المصيبة يرق معها القلب ويخشع، وتذل النفس، فتنقاد لفعل المأمور وترك المحظور.
وأما مع حصول الرياسة، والمال، والعافية في النفس والأهل، فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [العلق: 6 – 7]، والنفس حينئذ لا تستجيب لفعل المأمور وترك المحظور، بل تتعدى الحدود، وتنتهك المحارم، وتضيع الواجبات الباطنة والظاهرة، من الإخلاص، والتوكل، والصبر، والشكر، وحقوق الرب عز وجل وحقوق عباده، ويحصل لها من الاستكبار، والخيلاء، والإعجاب، والرياء، ما هو من أضر الأمور بها.
* وأما الثاني، فلأن المصيبة توجب قطع تعلق قلبه بالمخلوق إذا أيس من زوالها بالمخلوق، كالمرض الذي أعيا الأطباء، والفقر الذي لم يرج معه أحدا يزيله، والخوف الذي ليس فيه نصر لمخلوق.
والنفس تطلب جلب المنفعة ودفع المضرة من حيث ترجو ذلك، ولو [ ص: 410 ] كان بتوهم وخيال، فبهذا يغلب عليها الشرك أولا بتعلقها بمن ترجوه لجلب المنفعة كتحصيل الرزق، أو لدفع المضرة كقهر العدو، بمثل الإخوان والأصدقاء، ومثل الأقارب والجيران، ومثل الملوك والولاة والقضاة، ومثل المشايخ والعلماء، ومثل قبور الصالحين والأنبياء. فإذا أيست من الخلق أقبلت على الله، فدعت الله مخلصة له الدين، قال تعالى: وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه الآية [يونس: 12].
* ومن الخير الذي قد يحصل بالمصائب: أنه إذا حصلت له التوبة، والإنابة إلى الله، والاستكانة له، والتضرع ذاق طعم الإيمان، ووجد حلاوة حب الله ورسوله، فعظم إيمانه علما وعملا، وذاق من حلاوة ذلك ولذته ما لم يكن ذاقه قبل ذلك؛ لأن هوى النفس وعاداتها الفاسدة كانت حجابا له عن ذوق طعم الإيمان ووجد حلاوته، فلما حصل البلاء أزال هوى النفس، فارتفع الحجاب، وذاق العبد حلاوة الإيمان. [ ص: 411 ]
مثل رجل كان يدعى إلى أنواع من المآكل الطيبة، والصور الجميلة، فلا يجيب إلى ذلك؛ اشتغالا بما اعتاده في بلده من المآكل الردية، والمناكح الردية، فأسره عدوه أو حبسه، وجعل يطعمه في سجنه من تلك المآكل الطيبة، وأنكحه من تلك المناكح التي كانت في بلده، وكان ينكرها أولا، فذاق ما لم يكن ذاقه، فلما أخرجوه من السجن، وأطلقوه من الأسر، أقام عندهم في بلدهم ولم يرجع إلى بلده؛ لما وجده من الطيب الذي لم يكن ذاقه، لا سيما إذا كان دينهم خيرا من دينه، فيذوق حلاوة الدين والدنيا، كما يحصل لكثير من التتر إذا أسرهم المسلمون أو استرقوهم، ثم نقلوهم إلى عسكر المسلمين، فيذوقون في الرق والأسر من حلاوة الدين والدنيا ما لم يكونوا يذوقونه في أوطانهم وهم أحرار طلقاء.
والمرض سجن الله، وكذلك سائر حصل له من ذوق طعم الإيمان ووجود حلاوته ما لم يكن ذاقه، لا سيما إن حصل له مع ذلك نعيم في بدنه ومسكنه، فيكون قد جمع نعيم الدين والدنيا هذا في نعمة حاضرة محسوسة. المصائب إذا رزق العبد فيها الإنابة
فعليه أن يشكر الله سبحانه وإن كان مأمورا بالصبر؛ فإن العبد في الحال الواحدة مأمور بالصبر والشكر، فيصبر لما يجده من المرض، ويشكر لما يراه من النعمة الظاهرة.
فعليه أن يصبر فيها على أداء الواجبات، وترك المحرمات؛ فإن النعم [ ص: 412 ] الظاهرة من المال والعافية والانتصار على العدو تبسط هوى النفس، فيحصل لها من العدوان والطغيان، والظلم والفواحش، والإعراض عما يجب عليها لله من حقيقة العبودية، والإخلاص له، والتوكل عليه، والخوف منه، والإنابة إليه - ما هو من أعظم الضرر في حقها.
فإن لم يصبر في السراء وإلا هلك.
كما قال والصبر في السراء أعظم الصبرين، «ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر». عبد الرحمن بن عوف:
وقال بعض العارفين: «البلاء يصبر عليه المؤمن، ولا يصبر على العافية إلا كل صديق».
وإذا ابتلي بمصيبة ظاهرة فعليه الشكر، كما قد بسطنا الكلام فيه، وهو أعظم الشكرين.