وفي
nindex.php?page=treesubj&link=28658إثبات الربوبية بهذه الطريقة فوائد عظيمة يطول ذكرها هنا.
منها: أن ذلك تعريف للإنسان بحال نفسه ونوعه وجنسه، وذلك أقرب الأمور إليه، فهي دلالة له لازمة له ذاتية.
ومنها: أن ذلك يبين فقره وحاجته، وأنه مربوب مقهور مدبر.
ومنها: أن ذلك يثبت القدر، وأنه خالق الحيوان وأفعالهم، وذلك يدل بطريق التنبيه على خلق غير الحيوان، فإن كثيرا من الناس عرضت لهم شبهة في خلق أفعال الحيوان، لما له من العلم والقدرة والإرادة.
[ ص: 80 ]
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن ما يستدل به على أن الله خالق غير العبد، يستدل به على ذلك في العبد، وإن أشبهه ذلك، حتى إن مناظري القدرية لم يتفطن جمهور متكلميهم على ذلك. وذكرنا أن الخوض في القدر أصل كل شبهة في العالم، فبين سبحانه أنه خلق وعلم، وخلق فسوى، وقدر فهدى، فإنه إذا كان هو المعلم الهادي إلى خلقه، فمعلوم أن مبدأ الحركات الإرادية هو جنس العلم، والتعليم ينطبق على تعليم الناطق والبهيم، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=4وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله ، وذكر الكلب المعلم، والفرق بينه وبين غير المعلم ثابت بالسنة الثابتة واتفاق العلماء.
ولهذا قال سبحانه:
nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=3قدر فهدى فجعل التقدير قبل الهداية، كما جعل الخلق قبل التسوية، والتقدير يتضمن علمه بما قدره، وقد يتضمن تكلمه به وكتابته له، فدل ذلك على ثبوت القدر، وعلى أن أصل القدر هو علمه أيضا، فدل ذلك على أنه بكل شيء عليم، ولهذا قال في السورة الأخرى:
nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=4الذي علم بالقلم nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=5علم الإنسان ما لم يعلم ، والكتابة بالقلم تتضمن القول، والقول يتضمن العلم، وهذه الثلاثة هي مراتب التقدير العلمي، وذلك مذكور بعد خلق العين، فذكر إحداثه لذاته وصفاته وأفعاله، فانظر كيف كانت الرسالة تتضمن الدلالة بهذين الأصلين: الخلق المستلزم للحياة، والهدى
[ ص: 81 ] والنور الذي هو كمال الحياة.
وكذلك قال
الخليل عليه السلام لما قال:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=258ربي الذي يحيي ويميت ، ذكر الأصل الأول، ثم ذكر أن الله يأتي بالشمس من المشرق، وفي الشمس الضياء والنور الذي يعيش الناس، فذكر الحياة والنور.
فهذه المعاني في التمثيل بالماء والنار، وأيضا فالماء رطب، والنار حارة، والحياة إنما تحصل بالحرارة والرطوبة، ولما ذكر الله في سورة الواقعة خلقه للنسل والحرث للخلق والرزق بقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=58أفرأيتم ما تمنون nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=59أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ، وقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=63أفرأيتم ما تحرثون nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=64أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ، فذكر النسل والحرث، وذلك يتضمن خلق الإنسان وخلق طعامه، كما قال:
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=24فلينظر الإنسان إلى طعامه الآية، ثم ذكر بعد ذلك ما يتم به الحرث والنسل من الماء والنار، فقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=68أفرأيتم الماء الذي تشربون ،
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=71أفرأيتم النار التي تورون .
وأيضا فالتمثيل بالنار يقتضي الحركة، وحرارة الطلب والإرادة،
[ ص: 82 ] والشوق والمحبة، والنور والهدى مع ذلك، فتبين أن العلم لا يحصل إلا بعمل، والعمل مقارن للعلم، كما قد بينا ذلك في غير هذا الموضع، وبينا تلازم العلم والعمل، وذلك أنها مثل الحياة.
وأيضا ففي النار إنارة وحرارة وأشواق، ففي التمثيل بذلك إشارة إلى أن النور والهدى في القلب، لا يحصل إلا بنوع من الحرارة التي تكون عن الحركة والشوق والمحبة، فإن الحب والشوق والطلب يوجب للقلب أعظم من حرارة النار البسيطة، هكذا يقوله الطبيعيون، وكذلك يجربه العاشقون، كما قال بعضهم: إن لم تكن نار المحبين أعظم من نار جهنم، وإلا كان كذا وكذا.
فإذا كان النور مع الحرارة المقارنة للحركة والمحبة والإرادة، دل ذلك على أن الهدى ينال بذلك، كما قال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=69والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل: nindex.php?page=treesubj&link=18467_18468والبحث في العلم جهاد.
وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=13الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب فعلق الهداية بالإنابة، وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=16يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=66ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=67وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=68ولهديناهم صراطا مستقيما .
[ ص: 83 ]
وأما الماء ففيه رطوبة وبرودة، وفيه إرواء وإغراق، وهذا يدفع ضرره الحرارة التي في النار، كما أن العطشان يجد حرارة العطش، فإذا شرب الماء روي، فكذلك طالب الهدى يكون عنده شوق وطلب وحرارة حين يكون طالبا، فإذا أتاه الهدى، وأحيا قلبه بحياة العلم والإيمان، روي بذلك، ووجد له اللذة، وأما إذا كان عنده الحرارة النارية التي توجب له الحياة المشوقة له ولم يشرب، فإنه يكون عذابا له، كالذي يصلى النار الكبرى، ثم لا يموت فيها ولا يحيى، فإن حياته لم تحصل مقصودها من الهدى واللذة، وما لم يحصل مقصوده يصح نفيه، فإن الشيء إنما هو مطلوب لأجل مقصوده، كما يقال عما لا ينفع: ليس بشيء. وهذا باب مبسوط في موضعه، كقوله:
nindex.php?page=hadith&LINKID=663390 "لا نكاح إلا بولي" ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=687325 "ولا بيع فيما لا يملك" ، ونحو ذلك.
وهو لم يمت أيضا، لأنه فيه حياة، وهذا باب واسع، قال
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد في أول خطبته : "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال
[ ص: 84 ] تائه قد هدوه ".
وقد قال الله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=52وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ، فسماه روحا ونورا، ليبين أن به الحياة والهدى، والهدى يتضمن اهتداء الحي إلى ما ينفعه هو، الذي يوجب لذته وفرحه وسروره، وذلك كما قال الله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=169أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=170فرحين بما آتاهم الله من فضله ،ولهذا قالت الملائكة: حياك الله وبياك ، أي أضحكك، والضحك إنما يكون عند السرور.
[ ص: 85 ]
وَفِي
nindex.php?page=treesubj&link=28658إِثْبَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا هُنَا.
مِنْهَا: أَنَّ ذَلِكَ تَعْرِيفٌ لِلْإِنْسَانِ بِحَالِ نَفْسِهِ وَنَوْعِهِ وَجِنْسِهِ، وَذَلِكَ أَقْرَبُ الْأُمُورِ إِلَيْهِ، فَهِيَ دَلَالَةٌ لَهُ لَازِمَةٌ لَهُ ذَاتِيَّةٌ.
وَمِنْهَا: أَنَّ ذَلِكَ يُبَيِّنُ فَقْرَهُ وَحَاجَتَهُ، وَأَنَّهُ مَرْبُوبٌ مَقْهُورٌ مُدَبَّرٌ.
وَمِنْهَا: أَنَّ ذَلِكَ يُثْبِتُ الْقَدَرَ، وَأَنَّهُ خَالِقُ الْحَيَوَانِ وَأَفْعَالِهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ عَلَى خَلْقِ غَيْرِ الْحَيَوَانِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَرَضَتْ لَهُمْ شُبْهَةٌ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْحَيَوَانِ، لِمَا لَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ.
[ ص: 80 ]
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ غَيْرُ الْعَبْدِ، يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ، وَإِنْ أَشْبَهَهُ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ مُنَاظِرِي الْقَدَرِيَّةِ لَمْ يَتَفَطَّنْ جُمْهُورُ مُتَكَلِّمِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ. وَذَكَرْنَا أَنَّ الْخَوْضَ فِي الْقَدَرِ أَصْلُ كُلِّ شُبْهَةٍ فِي الْعَالَمِ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ خَلَقَ وَعَلَّمَ، وَخَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ هُوَ الْمُعَلِّمَ الْهَادِيَ إِلَى خَلْقِهِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ مَبْدَأَ الْحَرَكَاتِ الْإِرَادِيَّةِ هُوَ جِنْسُ الْعِلْمِ، وَالتَّعْلِيمُ يَنْطَبِقُ عَلَى تَعْلِيمِ النَّاطِقِ وَالْبَهِيمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=4وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ، وَذِكْرُ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ وَاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ:
nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=3قَدَّرَ فَهَدَى فَجَعَلَ التَّقْدِيرَ قَبْلَ الْهِدَايَةِ، كَمَا جَعَلَ الْخَلْقَ قَبْلَ التَّسْوِيَةِ، وَالتَّقْدِيرُ يَتَضَمَّنُ عِلْمَهُ بِمَا قَدَّرَهُ، وَقَدْ يَتَضَمَّنُ تَكَلُّمَهُ بِهِ وَكِتَابَتَهُ لَهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى ثُبُوتِ الْقَدَرِ، وَعَلَى أَنَّ أَصْلَ الْقَدَرِ هُوَ عِلْمُهُ أَيْضًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَلِهَذَا قَالَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=4الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ nindex.php?page=tafseer&surano=96&ayano=5عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ، وَالْكِتَابَةُ بِالْقَلَمِ تَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ، وَالْقَوْلُ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ مَرَاتِبُ التَّقْدِيرِ الْعِلْمِيِّ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ بَعْدَ خَلْقِ الْعَيْنِ، فَذَكَرَ إِحْدَاثَهُ لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَتِ الرِّسَالَةُ تَتَضَمَّنُ الدَّلَالَةَ بِهَذَيْنَ الْأَصْلَيْنِ: الْخَلْقِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْحَيَاةِ، وَالْهُدَى
[ ص: 81 ] وَالنُّورِ الَّذِي هُوَ كَمَالُ الْحَيَاةِ.
وَكَذَلِكَ قَالَ
الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=258رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ، ذَكَرَ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ، وَفِي الشَّمْسِ الضِّيَاءُ وَالنُّورُ الَّذِي يُعِيشُ النَّاسَ، فَذَكَرَ الْحَيَاةَ وَالنُّورَ.
فَهَذِهِ الْمَعَانِي فِي التَّمْثِيلِ بِالْمَاءِ وَالنَّارِ، وَأَيْضًا فَالْمَاءُ رَطْبٌ، وَالنَّارُ حَارَّةٌ، وَالْحَيَاةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِالْحَرَارَةِ وَالرُّطُوبَةِ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ خَلْقَهُ لِلنَّسْلِ وَالْحَرْثِ لِلْخَلْقِ وَالرِّزْقِ بِقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=58أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=59أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ، وَقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=63أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=64أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ، فَذَكَرَ النَّسْلَ وَالْحَرْثَ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ خَلْقَ الْإِنْسَانِ وَخَلْقَ طَعَامِهِ، كَمَا قَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=24فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْحَرْثُ وَالنَّسْلُ مِنَ الْمَاءِ وَالنَّارِ، فَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=68أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=56&ayano=71أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ .
وَأَيْضًا فَالتَّمْثِيلُ بِالنَّارِ يَقْتَضِي الْحَرَكَةَ، وَحَرَارَةَ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ،
[ ص: 82 ] وَالشَّوْقِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالنُّورَ وَالْهُدَى مَعَ ذَلِكَ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَالْعَمَلُ مُقَارِنٌ لِلْعِلْمِ، كَمَا قَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَيَّنَّا تَلَازُمَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا مِثْلُ الْحَيَاةِ.
وَأَيْضًا فَفِي النَّارِ إِنَارَةٌ وَحَرَارَةٌ وَأَشْوَاقٌ، فَفِي التَّمْثِيلِ بِذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النُّورَ وَالْهُدَى فِي الْقَلْبِ، لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِنَوْعٍ مِنَ الْحَرَارَةِ الَّتِي تَكُونُ عَنِ الْحَرَكَةِ وَالشَّوْقِ وَالْمَحَبَّةِ، فَإِنَّ الْحُبَّ وَالشَّوْقَ وَالطَّلَبَ يُوجِبُ لِلْقَلْبِ أَعْظَمَ مِنْ حَرَارَةِ النَّارِ الْبَسِيطَةِ، هَكَذَا يَقُولُهُ الطَّبِيعِيُّونَ، وَكَذَلِكَ يُجَرِّبُهُ الْعَاشِقُونَ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ لَمْ تَكُنْ نَارُ الْمُحِبِّينَ أَعْظَمَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَإِلَّا كَانَ كَذَا وَكَذَا.
فَإِذَا كَانَ النُّورُ مَعَ الْحَرَارَةِ الْمُقَارِنَةِ لِلْحَرَكَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْهُدَى يُنَالُ بِذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=69وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=32مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: nindex.php?page=treesubj&link=18467_18468وَالْبَحْثُ فِي الْعِلْمِ جِهَادٌ.
وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=13اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ فَعَلَّقَ الْهِدَايَةَ بِالْإِنَابَةِ، وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=16يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ، وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=66وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=67وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=68وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا .
[ ص: 83 ]
وَأَمَّا الْمَاءُ فَفِيهِ رُطُوبَةٌ وَبُرُودَةٌ، وَفِيهِ إِرْوَاءٌ وَإِغْرَاقٌ، وَهَذَا يَدْفَعُ ضَرَرَهُ الْحَرَارَةُ الَّتِي فِي النَّارِ، كَمَا أَنَّ الْعَطْشَانَ يَجِدُ حَرَارَةَ الْعَطَشِ، فَإِذَا شَرِبَ الْمَاءَ رُوِيَ، فَكَذَلِكَ طَالِبُ الْهُدَى يَكُونُ عِنْدَهُ شَوْقٌ وَطَلَبٌ وَحَرَارَةٌ حِينَ يَكُونُ طَالِبًا، فَإِذَا أَتَاهُ الْهُدَى، وَأَحْيَا قَلْبَهُ بِحَيَاةِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، رُوِيَ بِذَلِكَ، وَوَجَدَ لَهُ اللَّذَّةَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ عِنْدَهُ الْحَرَارَةُ النَّارِيَّةُ الَّتِي تُوجِبُ لَهُ الْحَيَاةَ الْمُشَوِّقَةَ لَهُ وَلَمْ يَشْرَبْ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَذَابًا لَهُ، كَالَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى، ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى، فَإِنَّ حَيَاتَهُ لَمْ تُحَصِّلْ مَقْصُودَهَا مِنَ الْهُدَى وَاللَّذَّةِ، وَمَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ يَصِحُّ نَفْيُهُ، فَإِنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا هُوَ مَطْلُوبٌ لِأَجْلِ مَقْصُودِهِ، كَمَا يُقَالُ عَمَّا لَا يَنْفَعُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَهَذَا بَابٌ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ، كَقَوْلِهِ:
nindex.php?page=hadith&LINKID=663390 "لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ" ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=687325 "وَلَا بَيْعَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ" ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَهُوَ لَمْ يَمُتْ أَيْضًا، لِأَنَّهُ فِيهِ حَيَاةٌ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي أَوَّلِ خِطْبَتِهِ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَتْرَةً مِنَ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، يُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ الْمَوْتَى، وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِ اللَّهِ أَهْلَ الْعَمَى، فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لِإِبْلِيسٍ قَدْ أَحْيَوْهُ، وَكَمْ مِنْ ضَالٍّ
[ ص: 84 ] تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ ".
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=52وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مِنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ، فَسَمَّاهُ رُوحًا وَنُورًا، لِيُبَيِّنَ أَنَّ بِهِ الْحَيَاةَ وَالْهُدَى، وَالْهُدَى يَتَضَمَّنُ اهْتِدَاءُ الْحَيِّ إِلَى مَا يَنْفَعُهُ هُوَ، الَّذِي يُوجِبُ لَذَّتَهُ وَفَرَحَهُ وَسُرُورَهُ، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=169أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=170فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ،وَلِهَذَا قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: حَيَّاكَ اللَّهُ وَبَيَّاكَ ، أَيْ أَضْحَكَكَ، وَالضَّحِكُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ السُّرُورِ.
[ ص: 85 ]