وأما قوله: فظهور الآخرية في كونه الغاية المقصودة أظهر من ظهور الأولية في كونه أولا في القصد والإرادة. "وأنت الآخر فليس بعدك شيء"،
ومما يبين هذا أن فما كانت عاقبته وغايته أكمل كان أعلى وأفضل عند الشارع. الأفعال إنما تتفاضل وتحمد وتذم ويؤمر بها وينهى عنها باعتبار غاياتها وعواقبها المقصودة منها،
ولهذا ذكرنا فيما تقدم من القواعد أنه أي العملين كان لله أطوع ولصاحبه أنفع فهو أفضل، فإن منفعته لصاحبه تكون مصلحة وخيرا، وبأمر الشارع به يكون طاعة ودينا وقربة، وهما متلازمان، فالله تعالى إنما أمر العبد بما إذا فعله العبد كان مصلحة له، ونهاه عما إذا فعله كان مضرة له، كما قال إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم حاجة إليه، ولا نهاهم عما نهاهم بخلا به عليهم، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم. قتادة:
ولهذا إذا وقع التنازع في كون العمل هو طاعة وقربة أم لا؟ إذ كان [ ص: 166 ] المجتهدون قد تنازعوا فيه، فإنه يستدل على ذلك تارة بالأدلة السمعية الدالة على كونه طاعة أو ليس كذلك، وتارة بالأدلة النظرية، وهو ما ترتب على ذلك العمل من المصلحة والمفسدة، كما قال تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ، فأخبر أنه سيري الآيات الأفقية والنفسية التي بين فيها أن القرآن حق، وهو ما فيه من الخبر والأمر والوعد والوعيد. وذلك لما يحدثه الله من نصر المؤمنين وجعل العاقبة لهم وعقوبة الكافرين، فجعل سبحانه ما يشهد ويرى من عواقب الأعمال والكمال مما يتبين به الحق من الباطل.
ثم قال: أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ،وهو شهادته بذلك في كلامه المسموع. فهذه الأدلة السمعية الشرعية، ولهذا قال تعالى: وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، وقال: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ، وكما أنه يستدل بالأدلة السمعية والبصرية على الفرق بين المؤمن والكافر، فيستدل بها أيضا على البر والفاجر من المسلمين، وعلى المطيع والعاصي، وعلى المصيب في اجتهاده [ ص: 167 ] والمخطئ، والفاضل والمفضول.
كما يستدل مع الأدلة السمعية الشرعية على فضيلة أبي بكر بما أراه الله في الآفاق وفي الأنفس، من صلاح أعمالهما وجميل سيرتهما، وفضل علمهما وقصدهما وعملهما وقدرتهما، فإن ظهور رجحان ذلك على سيرة وعمر عثمان رضي الله عنهم أجمعين بين واضح. وعلي
وكما يستدل على [أن] القتال في الفتنة الكبرى وغيرها لم يكن في نفس الأمر مصلحة ولا مأمورا به، وإن اجتهد فيه من اجتهد من المغفور لهم، فيستدل على ذلك مع الأدلة الشرعية، وهو ما ورد من الأحاديث الصحيحة في النهي عن وأن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، والساعي خير من الموضع ، وأنه ليس في الشريعة أمر بذلك، كما فيها أمر بقتال القتال في الفتنة، الخوارج ... وأن من ظن أن يتناولها، فقد وضع النص في غير موضعه، فإن القرآن لم يأمر بالقتال ابتداء، لكن إذا اقتتلت الطائفتان فإنه أمر بالإصلاح، ثم أمر عند ذلك بقتال الباغية، فكان البغي في الاقتتال. وعلى ذلك ما ورد من قتال البغاة المأمور به في القرآن تقتله الفئة الباغية عمارا ، فأما أن يكون قبل القتال من بغى يقاتل ابتداء فهذا لم يأمر الله به ولا رسوله، بل هذا على إطلاقه خلاف [ ص: 168 ] الإجماع. أن
والفرق بين البغي بلا قتال والبغي في القتال واضح، وعلى هذا فإذا قيل: كان مأمورا بالقتال بعد البغي فيه أمكن ذلك، ولكن تلك الحال عصت الطائفة العراقية فنكلت عن القتال، فحال القتال لم يكن أمر، وحال الأمر لم تكن طاعة الأمر، وذلك يستدل به على حكم الشارع في نحو ذلك، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
والمقصود هنا أن عواقب الأفعال وغايتها تبين ما كان منها محمودا وأحمد، فمن وفق لذلك في الابتداء فليحمد الله، وإلا فعليه بالتوبة والاستغفار، فإن الله يقول: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ، وهذا يستقيم لمن لم يتبع هواه، فقد تقدم بالبرهان العقلي المعلوم من الآيات المرئية في الأنفس والآفاق ما يوافق ما شهد الله به في كتابه، أن اتباع الهوى بغير هدى من الله ضلال عما ينفع العبد، وسمي ضلالا لأن متبع هواه إنما يقصد لذته بنيل ما يهواه، لكن ينبغي أن يعرف أن لذته ومنفعته ليست في نيل ما يهواه، إلا أن يكون بهدى من الله، وهو ما أمر به أو أباحه، دون ما نهى عنه وحظره، فإذا خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى.