فصل
* الإيمان هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟
والجواب: أن هذه المسألة نشأ النزاع فيها لما ظهرت محنة الجهمية في القرآن هل هو مخلوق أو غير مخلوق؟ وهي محنة وغيره من علماء المسلمين، فقد جرت فيها أمور يطول وصفها هنا. لكن لما ظهر القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأطفأ الله نار الإمام أحمد الجهمية المعطلة، صارت طائفة يقولون: إن كلام الله الذي أنزله مخلوق، ويعبرون عن ذلك بـ « اللفظ»، فصاروا يقولون: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، أو تلاوتنا أو قراءتنا له مخلوقة. وليس مقصودهم مجرد أصواتهم وحركاتهم، بل يدرجون في كلامهم نفس كلام الله الذي نقرؤه بأصواتنا وحركاتنا. وعارضهم طائفة أخرى قالوا: ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة. ورد على الطائفتين، وقال: الإمام أحمد من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع.
وتكلم الناس حينئذ في الإيمان فقالت طائفة: الإيمان مخلوق، وأدخلوا في ذلك ما تكلم الله به من الإيمان، مثل قوله: « لا إله إلا الله»، فصار مقتضى قولهم أن نفس هذه الكلمة مخلوقة لم يتكلم الله بها; فبدع [ ص: 77 ] الإمام هؤلاء، وقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « أحمد أفيكون قول « لا إله إلا الله» مخلوقا! الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله»،
ومراده أن من قال: هي مخلوقة مطلقا، كان مقتضى قوله أن الله لم يتكلم بهذه الكلمة، كما أن من قال: ألفاظنا وتلاوتنا وقراءتنا القرآن مخلوقة، كان مقتضى كلامه أن الله لم يتكلم بالقرآن الذي أنزله، وأن القرآن المنزل ليس هو كلام الله، وأن يكون جبريل نزل بمخلوق ليس هو كلام الله، والمسلمون يقرؤون قرآنا [مخلوقا] ليس هو كلام الله.
وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله تعالى، وإن كان مسموعا عن المبلغ عنه، فإن الكلام قد يسمع من المتكلم به، كما سمعه موسى بلا واسطة هذا سماع مطلق، كما يرى الشيء رؤية مطلقة. وقد يسمعه من المبلغ عنه، فيكون قد سمعه سماعا مقيدا، كما يرى الشيء [في] الماء والمرآة رؤية مقيدة لا مطلقة، ولما قال تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله [التوبة: 62] كان معلوما عند جميع من خوطب بالقرآن أنه يسمع سماعا مقيدا من المبلغ، ليس المراد به أنه يسمع من الله كما سمعه موسى بن عمران، فهذا المعنى هو الذي عليه السلف والأئمة. [ ص: 78 ]
ثم بعد ذلك حدث أقوال أخر، فظن طائفة أنه سمع من الله. ثم من هؤلاء من قال: إنه يسمع صوت القارئ من الله، ومنهم من قال: إن صوت الرب حل في العبد، ومنهم من يقول: ظهر فيه ولم يحل فيه، ومنهم من يقول: لا نقول ظهر ولا حل، ثم منهم من يقول: الصوت المسموع غير مخلوق أو قديم، ومنهم من يقول: يسمع منه صوتان: مخلوق وغير مخلوق. ومن القائلين بأنه مسموع من الله من يقول: بأنه يسمع المعنى القديم القائم بذات الله مع سماع الصوت المحدث، قال هؤلاء: يسمع القديم والمحدث، كما قال أولئك: يسمع صوتين قديما ومحدثا. وطائفة أخرى قالت: لم يسمع الناس كلام الله، لا من الله ولا من غيره، قالوا: لأن الكلام لا يسمع إلا من المتكلم. ثم من هؤلاء من قال: يسمع حكايته، ومنهم من قال: يسمع عبارته لا حكايته، ومن القائلين بأنه مخلوق من قال: يسمع شيئان الكلام المخلوق الذي خلقه، والصوت الذي للعبد.
وهذه الأقوال كلها مبتدعة; لم يقل السلف شيئا منها، وكلها باطلة شرعا وعقلا، ولكن ألجأ أصحابها إليها اشتراك في الألفاظ واشتباه في المعاني، فإنه إذا قيل: سمعت [كلام] زيد، أو قيل: هذا كلام زيد، فإن هذا يقال على كلامه الذي تكلم هو به بلفظه ومعناه، سواء كان مسموعا [ ص: 79 ] منه أو من المبلغ عنه، مع العلم بالفرق بين الحالين، وأنه إذا سمع منه سمع بصوته، وإذا سمع من غيره سمع من ذلك المبلغ لا بصوت المتكلم، وإن كان اللفظ لفظ المتكلم.
وقد يقال مع القرينة: هذا كلام فلان، وإن ترجم عنه بلفظ آخر، كما حكى الله كلام من يحكي قوله من الأمم باللسان العربي، وإن كانوا إنما قالوا بلفظ عبري أو سرياني أو قبطي أو غير ذلك. وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر.
والمقصود أنه نشأ بين أهل السنة والحديث نزاع في مسألتي الإيمان والقرآن بسبب ألفاظ مجملة ومعاني متشابهة. وطائفة من أهل العلم والسنة صاحب « الصحيح»، ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما قالوا: الإيمان مخلوق. وليس مرادهم شيئا من صفات الله تعالى، وإنما مرادهم بذلك أفعال العباد. وقد اتفق أئمة السنة على أن كالبخاري وقال أفعال العباد مخلوقة، وأصوات العباد مخلوقة، ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: أفعال العباد مخلوقة. [ ص: 80 ] يحيى بن سعيد القطان:
وصار بعض الناس يظن أن وهؤلاء خالفوا البخاري وغيره من أئمة السنة، وجرى أحمد بن حنبل محنة بسبب ذلك، حتى زعم بعض الكذابين أن للبخاري لما مات أمر البخاري أن لا يصلى عليه، وهذا كذب ظاهر; فإن البخاري -رحمه الله- مات بعد أحمد بن حنبل -رحمه الله- بنحو خمس عشرة سنة، توفي أحمد بن حنبل سنة إحدى وأربعين ومائتين، وتوفي أحمد بن حنبل سنة ست وخمسين ومائتين، وكان البخاري يحب أحمد بن حنبل ويبجله ويعظمه، وأما تعظيم البخاري وأمثاله الإمام أحمد فهو أمر مشهور. البخاري
ولما صنف البخاري كتابه في « خلق أفعال العباد» -وذكر في آخر كتابه « الصحيح» أبوابا في هذا المعنى- ذكر أن كلا من الطائفتين القائلين بأن لفظنا بالقرآن مخلوق، والقائلين بأنه غير مخلوق ينتسبون إلى ويدعون أنهم على قوله، وكلام الطائفتين كلام من لم يفهم [دقة] كلام الإمام أحمد بن حنبل، رضوان الله عليه. [ ص: 81 ] أحمد
وطائفة أخرى كأبي الحسن الأشعري، والقاضي أبي بكر بن الطيب، -وغيرهم ممن يقولون: إنهم على اعتقاد والقاضي أبي يعلى وأئمة أهل السنة والحديث- قالوا: أحمد بن حنبل وغيره إنما كرهوا أن يقال: لفظت بالقرآن; لأن اللفظ هو الطرح والنبذ. أحمد
وطائفة أخرى وغيره ممن يقول: إنه متبع كأبي محمد بن حزم وغيره من أئمة السنة [إلى غير هؤلاء ممن ينتسب إلى السنة ومذهب] أئمة الحديث، ويقولون: إنهم على اعتقاد لأحمد بن حنبل ونحوه من أهل السنة، وهم لم يعرفوا حقيقة ما كان يقوله أهل السنة أحمد بن حنبل وقد بسطنا أقوال السلف والأئمة كأحمد بن حنبل. وغيره في غير هذا الموضع. كأحمد بن حنبل
خلا البخاري وأمثاله، فإن هؤلاء من أعرف الناس بقول وغيره من أئمة السنة. أحمد بن حنبل
وقد رأيت طائفة تنتسب إلى السنة والحديث وأمثاله ممن يردون على كأبي نصر السجزي يقولون: إن أبي عبد الله البخاري كان يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق. وذكروا روايات كاذبة لا [ ص: 82 ] ريب فيها، والقول المتواتر عن أحمد بن حنبل من رواية ابنيه أحمد بن حنبل صالح وعبد الله، وحنبل، والمروذي، وفوران، ومن لا يحصى يبين أن كان ينكر على هؤلاء [وهؤلاء]، وقد صنف أحمد في ذلك مصنفا، ذكر فيه قول أبو بكر المروذي وغيره من أئمة العلم، وقد ذكر ذلك أحمد بن حنبل الخلال في كتاب « السنة»، وذكر بعضه في كتاب « الإبانة» وغيره، وقد ذكر كثيرا من ذلك أبو عبد الله بن بطة فيما صنفه في مسألة اللفظ. أبو عبد الله بن منده
وقال أبو محمد بن قتيبة الدينوري: لم يختلف أهل الحديث في شيء من اعتقادهم إلا في مسألة اللفظ. ثم ذكر ابن قتيبة -رحمه الله- أن اللفظ يراد به مصدر لفظ يلفظ، فاللفظ الذي هو فعل العبد يراد به نفس الكلام الذي هو فعل العبد وصوته وهو مخلوق، وأما نفس كلام الله الذي يتكلم به العباد فليس مخلوقا.