والأقوال قسمان: قسم هو بمنزلة الفعل، كالكفر وشهادة الزور ونحو ذلك، فإن هذا إذا كذب لم يمكن أن يقال: وجود الكذب كعدمه. وكذلك إذا اعتقد الكفر بقلبه أو قاله بلسانه غير مكره استهزاء بآيات الله لم يمكن أن يقال: وجود ذلك كعدمه. فالطلاق والعتاق عند جمهور الفقهاء مالك والشافعي في القسم الأول من جنس البيع والنكاح وغيرهما، لا من جنس الكذب. وأحمد
والقول الموجب للصدق إذا كذب صاحبه كان الذنب له، ولم يكن رفع المفسدة إلا بأن يقال: الصيغة ليست التزاما وعهدا، وهذا ممتنع، ألا ترى أنه لما التزم فعل المحرمات أبطل الشارع ذلك، ولما التزم فعل المباحات لم يأمره بذلك، بل شرع الكفارة في الموضعين [ ص: 331 ] عند من يقول بذلك وغيره، أو لا شيء عليه كما يقوله كأحمد وغيره. الشافعي
وأيضا فإنه إذا نذر الطاعات إن جعل وجود العقد كعدمه ففيه صد عن الترغيب في الطاعات، والشارع يرغب في ذلك من لم ينذر، فكيف إذا نذر؟ وكذلك إن قيل: فيه كفارة يمين مطلقا ففيه صد عن الطاعات التي هي أحب إلى الله من الكفارة، وهذا بخلاف المحرمات، فإن الكفارة أحب إلى الله منها.
ثم الظهار ونذر المعصية أوجب كفارة يتقرب بها إلى الله، أما إيقاع الطلاق الذي نهى الله عنه وهو يوجب ما يبغضه الله من غير مصلحة في ذلك، لا للزوج ولا للمرأة ولا لأحد من المسلمين، ولا فيه ما يحبه الله ورسوله، فكيف يشرع الله وقوع فساد راجح وشر راجح، ولا يجعل للعباد طريقا إلى رفع ذلك الشر والفساد؟! وهذا ليس من شريعة الإسلام ولله الحمد والمنة.
وإذا قيل: العبد هو الذي أوقع ذلك.
قيل: نعم، والعبد هو الذي يعقد سائر العقود المنهي عنها، ويلتزم ما فيها من اللوازم، ومع هذا لما كان فسادها راجحا أبطل الشارع تلك العقود، ولم يشرع وقوع ذلك الفساد الراجح، كمن نكح أنكحة منهيا عنها، وباع بيوعا منهيا عنها، ونحو ذلك، فالطلاق المحرم عقد من العقود المنهي عنها.
ألزم الناس بوقوع الثلاث جملة كما ذكرتم، فعمر بن الخطاب لم يكن ليخالف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعلم أنه اطلع على دليل شرعي يوجب ذلك. وعمر وقد وافقه فإن قيل: علي وابن مسعود وابن [ ص: 332 ] عباس وابن عمر وأبو هريرة ، فهؤلاء أفتوا فيمن أوقع الثلاث جملة أن تقع. واشتهر ذلك عند عامة العلماء حتى ظنه من ظنه إجماعا، وصار نقيض ذلك يحكى عن أهل البدع وعبد الله بن عمرو كالرافضة، ولهذا لما ذكر هذا القول عن الرافضة قال: قول سوء، أو نحو ذلك. لأحمد
قيل: أما المنقول عن رضي الله عنه فظاهره أنه عاقب الناس بإيقاعها جملة لما أكثروا من فعل ما نهوا عنه، ولهذا قال: إن الناس قد أسرعوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أنا أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم. عمر
والذين أفتوا بذلك من الصحابة رأوا رأي في ذلك، وألفاظهم تدل على أنهم فعلوا ذلك عقوبة لمن فعل ما نهي عنه، كقول عمر لما سئل عمن طلق ثلاثا: أيها الناس! من أتى الأمر على وجهه فقد بين له، وإلا فوالله ما لنا طاقة بكل ما تحدثون. وفي لفظ: من أتى بدعة ألزمناه بدعته. فعلم أن هذا كان عنده مما نهوا عنه، فألزمهم به. وكذلك ابن مسعود قال لمن طلق ثلاثا: إنك لو اتقيت الله لجعل لك فرجا ومخرجا، ولكنك لم تتق الله فلم يجعل لك فرجا ومخرجا. وكذلك ابن عباس عبد الله بن عمر يقول: إذا فعلت ذلك فقد عصيت الله وبانت منك امرأتك. ومثل ذلك كثير في كلامهم، يذمون فاعل ذلك مع إيقاعهم به الثلاث. وهذا يقتضي أن فاعل ذلك كان مذموما عندهم مع إيقاع الثلاث به.
وقد [ ص: 333 ] وفي المنع من بعض المباحات، لما يرونه من مصلحة الأمة، كاجتهاد عمر وغيره في حد الشارب حتى حدوه ثمانين، وحتى كان كان للصحابة رضي الله عنهم اجتهاد في أنواع من العقوبات ينفيه ويحلق رأسه. وكما كان عمر ينهى عن متعة الحج ليعتمر الناس في غير أشهر الحج، فمنعهم من المباح لما رآهم يتركون به ما هو مشروع للأمة، ولما رأى في ذلك من حض الناس على الطاعة به، ويمنعهم من المباح ليفعلوا خيرا أو لئلا يفعلوا شرا. فلما كثر منهم إيقاع الثلاث جملة، ورأى أنهم لا ينتهون عن ذلك إلا بإلزامهم بها ومنعه من المرأة إذا قال ذلك، فمنعهم من نكاحها بعد الثلاث جملة ومفرقا، لئلا يفعلوا الشر الذي كانوا يفعلونه، كما منعهم من متعة الحج، ليفعلوا الخير - وهو العمرة - في سائر السنة، وكما حرم على الناكح في العدة أن يتزوج المنكوحة أبدا، ليمنعهم بذلك من الشر الذي فعلوه، وهو التزوج في العدة. وكما منع شارب الخمر أن يقيم ببلده، ليمنعه بذلك من شرب الخمر. عمر
وهذه العقوبات لها أصل في الشرع، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنع نفى المخنث والزاني، الحميري من السلب الذي أمر خالدا أن يعطيه إياه، فحرمه عليه بعد أن أوجبه له، ليزجر بذلك عن التعدي على ولاة الأمور لما اعتدى عوف بن مالك على خالد . وكذلك ما روي من منع الغال سهمه. وأيضا فإنه لما أمر بهجر الثلاثة الذين خلفوا أمر أزواجهم بهجرهم، ومنعهن أن يمكنوهم من مضاجعتهم ، مع أن هذا حلال للزوج مع امرأته. وهذا أبلغ من موجب الظهار، فإن هذا تحريم لنسائهم عليهم إلى أن يتوب الله عليهم أو يحكم الله بحكم [ ص: 334 ] آخر. والمظاهر تحرم عليه إلى أن يكفر، فأثبت موجب الظهار تعزيرا لمن استحق التعزير بالهجرة. وعاقب المتلاعنين بتحريم كل منهما على الآخر، وهذا أبلغ من موجب الطلاق. فإذا كان قد عاقب بتحريم أخف من موجب الطلاق وبتحريم أبلغ من موجب الطلاق، وجعل الثاني شرعا مطلقا، وجعل الأول تعزيزا يسوغ أن يفعله الأئمة بمن أذنب مثل ذلك الذنب -: لم يمتنع أن يكون أمير المؤمنين - مع كمال علمه ونصحه للأمة - رأى أن يعاقب المستكثرين مما نهى الله عنه، الذين لم يرتدعوا بمجرد نهي الشارع، بما هو من جنس العقوبات المشروعة. وقد كان أحيانا يهم بنهيهم عن أشياء وعقوبتهم بالمنع، ثم يتبين له الصواب في ذلك، كما هم أن يمنعهم من الزيادة في قدر الصداق على ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بأزواجه وبناته، ويجعل فعله شرعا لازما لهم لا يزدادون عليه، وأن يعاقب من جاوز فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بجعل الزيادة في بيت المال، حتى تبين له أن ذلك مما أباحه الله لهم، فلا يمنعون منه ولا يعاقبون عليه. عمر بن الخطاب
وإلا فهل يظن من يؤمن بالله واليوم الآخر ويعرف حال السابقين الأولين أن أو غيره من الخلفاء الراشدين كان يعمد إلى نسخ شرع النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وأن المسلمين يقرونه على ذلك مع علمه وعلمهم بأن هذا نسخ لشرعه! نعم، الأمور الاجتهادية التي يفعلها أحد الخلفاء تارة يوافقه عليها جماعتهم، وتارة يوافقه عليها بعضهم وينكرها بعضهم إنكار مجتهد على مجتهد، كما أنكر عمر بن الخطاب وغيره على عمران بن حصين ما قاله في متعة الحج ، مع أنه قد ثبت عن عمر أنه لم يحرمها، وأنه كان له فيها اجتهاد متنوع. [ ص: 335 ] عمر
وإذا كان هذا مخرج ما فعله فيقال: من كانوا عالمين بالتحريم وأقدموا عليه بعد علمهم بالتحريم، واستكثروا منه بعد علمهم بالتحريم، فمن ألزمهم به فقد اقتدى عمر في ذلك وبمن وافقه من الصحابة. بعمر