قال الإمام المحقق ابن القيم في إعلام الموقعين : { } رواه وسأله صلى الله عليه وسلم رجل فقال إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني ، وأحسن ويسيئون ، وأغفر ويظلمون أفأكافئهم ؟ فقال لا إذن تكونوا جميعا ولكن خذ الفضل وصلهم فإنه لن يزال معك ظهير من الله ما كنت على ذلك . الإمام أحمد
وعند من حديث مسلم رضي الله عنه أن { أبي هريرة } . رجلا قال يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني ، وأحسن إليهم ويسيئون إلي ، وأحلم عليهم ويجهلون علي ، فقال إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك
قوله المل بفتح الميم وتشديد اللام والملة هو الرماد الحار ، يعني كأنك تسفي في وجوههم الرماد الحار . وقال الأزهري : الملة التربة المحماة تدفن فيها الخبزة . وقال القبتي : المل الجمر .
قال في النهاية : أراد إنما تجعل المل لهم سفوفا يستفونه يعني أن إعطاءك إياهم حرام عليهم ونار في بطونهم . انتهى .
وعلى كل حال الإحسان والمودة يقلبان العداوة صدقة بلا محال . وما أحسن قول عبد الله بن المعتز العباسي في تائيته التي أولها :
ألا عللاني قبل أن يأتي الموت ويبنى لجسماني بدار البلى بيت ألا عللاني كم حبيب تعذرت
مودته عن وصله قد تسليت ألا رب دساس لي الكيد حامل
ضباب الحقود قد عرفت وداويت فعاد صديقا بعد ما كان شانيا
بعيد الرضى عني فصافى وصافيت ألا عللاني ليس سعي بمدرك
ولا بوقوفي بالذي حظني فوت فأهلكني ما أهلك الناس كلهم
صروف المنى والحرص واللو والليت وعرفني ربي طريق سلامتي
وبصرني لكنني قد تعاميت
ومن عجب الأيام بغي معاشر غضاب على سبقي إذا أنا جاريت
لهم رحم دنيا وهم يبعدونها إذا أنهكوها بالقطيعة أبقيت
يصدون عن شكري وتهجر سنتي على قرب عهد مثل ما يهجر الميت
فذلك دأب البر مني ودأبهم إذا قتلوا نعماي بالكفر أحييت
[ ص: 359 ] وأعي احتيالي ما بهم فرميتهم ورائي وما أنسيتهم بل تناسيت
يغيظهم فضلي عليهم وجهلهم كأني قسمت الحظوظ فحابيت
وكم كربة أخاذة بحلوقهم معممة البلوى كشفت وجليت
( الثالثة ) حكى صاحب الزواجر وغيره من الأئمة المعتبرين أن رجلا حج فلما أراد أن يطلع إلى الجبل أودع رجلا موسوما بالأمانة مالا له خطر ، فلما رجع لقي الرجل انتقل بالوفاة فسأل ورثته عن ماله فلم يكن لهم به علم ، فسأل العلماء عن قضيته فدله بعض العارفين بأنه يأتي زمزم في جوف الليل وينادي الرجل باسمه فإن يكن من أهل الخير فسيجيبه ، ففعل ذلك ليالي فلم يجبه فرجع إلى العارف وأخبره الخبر .
فقال لعل الرجل ذهب به ذات الشمال فاذهب إلى اليمن فأت بئرا في وادي برهوت فناد صاحبك ، فذهب الرجل إلى اليمن وقصد البئر في جوف الليل ونادى يا فلان فأجابه ، فقال له أين الأمانة فوصفها له في داره ، ثم قال له ما الذي صيرك إلى هنا مع اشتهارك بالأمانة والخير ؟ فقال له أخت كان قاطعا لها وتوسل إليه في مصالحتها ، فلما رجع دعا أولاد الرجل وأمرهم بأن يحفروا الموضع الذي عينه له فوجد ماله بختمه ثم أخبر أولاده بما صار إليه والدهم وبما قال له .
فقالوا أنت أولى بهذا الأمر ، فطلب منهم أن يدلوه على عمتهم فوجدها تتكفف الناس ، فذهب إليها ورجع أولاد أخيها فسألها عن حال أخيها فنالت منه وقالت لا تذكره لي ، فلم يزل بها إلى أن سامحته ودفع إليها مالا له خطر ، فطابت نفسها ، فذكر لها القصة فرقت لأخيها وبكت وسامحته من جميع حقوقها ودعت له بخير .
فلما كان وسط الليل ذهب الرجل إلى زمزم ونادى يا فلان فأجابه لبيك لبيك جزاك الله عني أحسن الجزاء ما أيمن طلعتك علي وأبركها ، قد نقلت من العذاب والجحيم إلى الراحة والنعيم ببركة طلعتك علي ومسامحة أختي لي . فانظر رحمك الله إلى هذه الحكاية التي يكاد الصلد لها أن يلين وإياك والقطيعة فإن فيها العذاب المهين .
فصل رحمك رحمك مولاك ، وخالف بذلك نفسك وهواك ، واصبر على أذاهم فإن بذلك نبيك أوصاك ، وبالغ في الإحسان إلى من أساء إليك منهم تحمد بذلك عقباك ، وحسن أخلاقك معهم ترض خلاقك ، وتنل راحتك ، ويطيب مثواك . والله [ ص: 360 ] المسئول أن يوفقني وإياك وجميع المسلمين والمسلمات لما فيه السعادة ، وأن يرزقنا الحسنى وزيادة ، ببركة ينبوع الحكم الربانية ، ومعدن الأسرار الروحانية ، النبي الأواب ، من جاء بالسنة والكتاب .
اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه ما دجت الأحلاك ، ودارت الأفلاك .