( الرابعة ) : كان الشيب الذي في شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل من عشرين شعرة كما ثبت ذلك في عدة أخبار ، مع أن الذين كانوا أصغر منه سنا كالصديق قد شابوا . قالوا والحكمة في ذلك لطف الباري جل شأنه بنسائه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن ; لأن من عادة النساء أن تنفر طباعهن من الشيب ، ومن نفر طبعه من الرسول خشي عليه ، فلطف الله بهن فلم يشب شيبا تعافه النساء . مع أن الشيب في حد ذاته غير منفر ولكن جلت حكمة الباري .
وفي بعض الآثار : { إن الله ليستحي أن يعذب ذا شيبة في الإسلام ، ثم بكى الرسول عليه الصلاة والسلام ، فقيل له : ما يبكيك يا رسول الله ؟ قال أبكي ممن يستحي الله منه وهو لا يستحي من الله } . ورواه من حديث البيهقي مرفوعا بلفظ { أنس } الحديث . وذكره الإمام الحافظ يقول الله إني لأستحي من عبدي وأمتي يشيبان في الإسلام ثم أعذبهما ابن الجوزي في الموضوعات وتعقب . ورواه الإمام في الزهد . وله شاهد من حديث أحمد سلمان ابن أبي الدنيا
. وذكر الديلمي عن رضي الله عنه بلا سند مرفوعا { جابر من لم يرعو عند الشيب ، ويستحي من العيب ، ولم يخش الله في الغيب ، فليس لله فيه حاجة } .
فلا ينبغي للعاقل أن يكره الشيب ; لأنه نور الإسلام ، ووقار من الملك [ ص: 428 ] السلام . ولا تغتر بفسقة الشعار وما لهم في ذلك من الأشعار ، مثل قول يعقوب بن صابر المنجنيقي كما في الوافي بالوفيات :
قالوا بياض الشيب نور ساطع يكسو الوجوه مهابة وضياء حتى سرت وخطاته في مفرقي
فوددت أن لا أفقد الظلماء وعدلت أستبقي الشباب تعللا
بخضابها فصبغتها سوداء لو أن لحية من يشيب صحيفة
لمعاده ما اختارها بيضاء
وقول شهاب الدين التلعفري في ذلك :
لا تعجلن فوالذي جعل الدجى من ليل طرتي البهيم ضياء
لو أنها يوم المعاد صحيفتي ما سر قلبي كونها بيضاء
ولكن اعتمد على قول صاحب الرسالة مصباح الهدى وماحي الضلالة كما رواه في تاريخه البخاري في شعب الإيمان { والبيهقي } وقد ذكره أن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن الحافظ ابن الجوزي في الموضوعات ، وتعقبه الجلال السيوطي والحافظ ابن حجر وغيرهما ، وهو عند أبي داود بإسناد حسن والله أعلم .