ثم إن الناظم رحمه الله تعالى حرض على ، وحث على السهر في نيله عودا على بدء في قوله أول المنظومة : إلا من له في العلم إلخ . لأن كل خير في الدنيا والآخرة فطريقه العلم فقال : بذل الجهد في طلب العلم
مطلب : في الحث على طلب العلم : ولا تسأمن العلم واسهر لنيله بلا ضجر تحمد سرى الليل في غد ( ولا تسأمن ) لا ناهية وتسأمن فعل مضارع مؤكد بالنون الثقيلة ، أي لا تملن ( العلم ) تعلما وتعليما وحفظا ومطالعة وكتابة . يقال سئم الشيء وسئم منه كفرح سآمة وسآما وسآمة وسأما : مل فهو سئوم كما في القاموس . وقال في لغة الإقناع : سئمت شيئا أسأمه مهموز من باب تعب سآما وسآمة بمعنى ضجرته ومللته .
وفي التنزيل { لا يسأم الإنسان من دعاء الخير } .
( واسهر ) أيها الطالب له الراغب فيه لا عنه ، فإنه لن ينال الكرامة إلا من قال للكرى مه . قال في القاموس : سهر كفرح لم ينم ليلا ، ورجل ساهر وسهار وسهران ( لنيله ) أي لأجل أن تناله وتعطاه فإنه لا يدرك بالراحة والأشر ، بل بالطلب والسهر ، فمن ألف السهاد ، وترك الوساد والمهاد ، وجاب البلاد ، وحرم الأهل والأولاد ، نال منه المراد . من طلب وجد وجد ، ومن قرع الباب ولج ولج . ومن ألف السآمة والنوم ، ولم ينل ما نال القوم . فإذا رأيت نفسك لا تنهض لنيل العلوم ، ولا تدأب في إدراك المنطوق منها والمفهوم ، فاعلم أنك ممن استرذله الله وأبعده ، واستحوذ عليه الشيطان وأقعده . [ ص: 517 ] فعن رحمه الله تعالى أنه قال : إذا استرذل الله عبدا زهده في العلم . الحسن البصري
وقال الإمام رضي الله عنه : لا يثبط عن طلب العلم إلا جاهل . أحمد
وقال : ليس قوم خيرا من أهل الحديث . وقد روي عنه رضي الله عنه أن العلم وتعلمه وتعليمه أفضل عن الجهاد وغيره ، وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله عنهما . وقد قدمنا في صدر هذا الكتاب ما يليق به . فإذا علمت هذا فعليك أن ترفض الوسن ، وتصرم الحسن ، وتجهد البدن ، لتتحلى بحليته ، وتعد من حملته ، فإنه لا ينال إلا بالجد والاجتهاد ، وحذف الوساد وإلف السهاد . ولا بد مع ذلك أن يكون الاجتهاد بنشاط وعزم فمن ثم قال ( بلا ضجر ) من طلبه . وسآمة من تعبه . يقال ضجر منه وبه كفرح ، وتضجر تبرم فهو ضجر وفيه ضجرة بالضم . فإن أسهرت العيون ، في حفظ المتون ، وتركت الوسن ، وأجهدت البدن . من غير سآمة ولا ضجر ، ولا بطالة ولا خور ( تحمد ) أنت ( سرى ) كهدى سير عامة الليل . وأما قوله تعالى { ومالك . سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } فذكر الليل تأكيدا ، أو معناه سيره .
وقال المحققون : فائدة ذكر الليل الإشارة بتنكيره إلى تقليل مدته . والسرى في كلام الناظم مضاف و ( السير ) وهو الذهاب كالمسير مضاف إليه أي تحمد سرى سيرك ( في غد ) عند كشف الغطاء وظهور الصواب من الخطأ ، فهناك تحمد جدك واجتهادك ، اللذين بلغاك مرادك ، في دار الروح والراحة ، وقيام الروح وكرع الراحة .
وذلك لأن العلم كما قال سيدنا رضي الله عنه : تعلمه لله حسنة ، وطلبه عبادة ، ومدارسته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة . وهو الأنس في الوحدة ، والصاحب في الخلوة . معاذ بن جبل
وقال : أوحى الله تعالى إلى كعب الأحبار موسى عليه الصلاة والسلام أن تعلم يا موسى الخير وعلمه للناس ، فإني منور لمعلم الخير ومتعلمه في قبورهم حتى لا يستوحشوا مكانهم .
[ ص: 518 ] وقال عيسى عليه الصلاة والسلام : من تعلم وعلم وعمل فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماء .
وقال بعض الحكماء : ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم ، وأي شيء فات من أدرك العلم .
وقال ابن الجوزي روح الله روحه : لا يخفى فضل العلم ببديهة العقل ; لأنه الوسيلة إلى معرفة الخالق ، وسبب الخلود في النعيم الدائم ، ولا يعرف التقرب إلى المعبود إلا به ، فهو سبب لمصالح الدارين ، والله أعلم .