الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وبعث أبو بكر بعد قفوله من الحج الجنود إلى الشام فبعث عمرو [ ص: 184 ] ابن العاص إلى فلسطين ،  فأخذ طريق المعرقة على أيلة ، وبعث يزيد بن أبي سفيان ، وأبا عبيدة بن الجراح ، وشرحبيل ابن حسنة إلى الشام ، وأمرهم أن يسلكوا التبوكية على البلقاء من علياء الشام ، وبعث خالد بن سعيد بن العاص على ربع من الأرباع ، فلم يزل عمر بن الخطاب بأبي بكر حتى عزله وأمر مكانه ابن أبي سفيان ، وخرج أبو بكر مع يزيد بن أبي سفيان يوصيه ويزيد راكب ، قال : أيها الأمير ، إما أن تركب ، وإما أن أنزل ، فقال : ما أنت بنازل ، ولا أنا براكب أليست خطاي هذه في سبيل الله! ثم قال : يا يزيد ، إنكم ستقدمون بلادا ، فإذا أكلتم الطعام فسموا الله على أولها ، واحمدوه على آخرها ، وستجدون قوما حبسوا أنفسهم في الصوامع ، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم ، وستجدون أقواما قد اتخذ الشيطان على رؤوسهم مقاعد - يعني الشمامسة - فاضربوا تلك الأعناق ، ولا تقتلن كبيرا هرما ، ولا امرأة ، ولا وليدا ، ولا تعقرن بهيمة إلا لنفع ، ولا تخربن عمرانا ، ولا تقطعن بحرا إلا لنفع ، ولا تغل [ ص: 185 ] ، ولا تغدر ، ولا تخن ، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز أقرئك السلام ، وأستودعك الله . ثم انصرف أبو بكر ، ومضى يزيد بن أبي سفيان ، وتبعه شرحبيل ابن حسنة ، وأبو عبيدة بن الجراح ، فردا فردا ، ونزل عمرو بن العاص في قصره بغمر العربات ، ونزل الروم بثنية جلق ، بأعلى فلسطين في سبعين ألفا عليهم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه ، فكتب عمرو بن العاص إلى أبي بكر يذكر له أمر الروم ويستمده ، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد ، وهو يأمره أن يمد أهل الشام فيمن معه من أهل القوة ، ويستخلف على ضعفة الناس رجلا منهم ، فلما أتاه كتاب أبي بكر قال خالد : هذا عمل الأعيسر بن أم شملة - يعني عمر بن الخطاب - حسدني أن يكون فتح العراق على يدي ، فسار خالد بأهل القوة من الناس ، ورد الضعفاء والنساء إلى المدينة ، وأمر عليهم عمير بن سعد الأنصاري ، واستخلف على من أسلم بالعراق من ربيعة [ ص: 186 ] وغيرهم المثنى بن حارثة الشيباني ، فلما بلغ خالد بمن معه عين التمر أغار على أهلها ، فأصاب منهم ، ورابط حصنا بها فيه مقاتلة لكسرى ، حتى استنزلهم وضرب أعناقهم ، وسبى منهم سبايا كثيرة ، وكان من تلك السبايا أبو عمرة والد عبد الأعلى بن أبي عمرة ، ويسار جد محمد بن إسحاق ، وحمران بن أبان مولى عثمان ، وأبو عبيد مولى المعلى ، وخير مولى أبي داود الأنصاري ، وأبو عبد الله مولى زهرة . فأراد خالد المسير ، والتمس دليلا فدل على رافع بن عميرة الطائي ، فقال له خالد : انطلق بالناس ، فقال له رافع : إنك لا تطيق ذلك بالجنود والأثقال ، والله إن الراكب المفرد ليخافها على نفسه وما يسلكها إلا مغررا ، إنها لخمس ليال جياد ، ولا يصاب فيها ماء مع مضلتها ، قال له خالد : ويحك ألا بد لي منها ؟ إنه قد أتاني من الأمير عزمة بذلك ، فمر بأمرك ، فقال رافع : استكثروا من الماء من استطاع منكم أن يصر أذن ناقته على ماء فليفعل ، فإنها المهالك إلا ما دفع الله ، فتأهب المسلمون وسار خالد بمن معه ، فلما بلغوا آخر يوم [ ص: 187 ] من المفازة قال خالد لرافع بن عميرة : ويحك يا رافع ، ما عندك ؟ قال : أدركت الري إن شاء الله ، فلما دنا من العلمين ، قال رافع للناس : انظروا هل ترون شجيرة من عوسج كقعدة الرجل ، فلم يروا شيئا ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، هلكتم والله إذا وهلكت ، انظروا فاطلبوها ، فطلبوا فوجدوها قد قطعت وبقي منها بقية ، فلما رآها المسلمون كبروا وكبر رافع بن عميرة ، ثم قال : احفروا في أصلها ، فحفروا فاستخرجوا عينا ، فشربوا حتى روي الناس ، ثم اتصل بعد ذلك لخالد المنازل فقال رافع : فوالله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة واحدة ، وردتها مع أبي وأنا غلام ، فلما بلغ لخالد والمسلمون إلى سوى أغار على أهله وهم بهراء قبيل الصبح ، وإذا جماعة منهم يشربون الخمر في جفنة لهم قد اجتمعوا عليها ، ومغنيهم يقول :

ألا عللاني قبل جيش أبي بكر لعل منايانا قريب ولا ندري

فقتلهم خالد بن الوليد ، وقتل مغنيهم ، وسال دمه في تلك الجفنة .

ثم سار خالد حتى أغار على غسان بمرج راهط ، حتى نزل على قناة بصرى وعليها [ ص: 188 ] أبو عبيدة بن الجراح ، وشرحبيل ابن حسنة ، ويزيد بن أبي سفيان ، وخرج خالد بن سعيد بن العاص بمرج الصفر في يوم مطير يستمطر فيه ، فتعاوى عليه أعلاج الروم فقتلوه ، واجتمع خالد بن الوليد ، وشرحبيل ابن حسنة ، ويزيد بن أبي سفيان معهم حتى صالحته بصرى على الجزية ، وفتحها الله للمسلمين ، فكانت تلك أول مدينة فتحت بالشام ، ثم ساروا جميعا إلى فلسطين مددا لعمرو بن العاص ، وعمرو مقيم بالعربات من غور فلسطين ، وسمع الروم باجتماع المسلمين لعمرو بن العاص ، فانكشفوا عن جلق إلى أجنادين ، وأجنادين بلد بين الرملة وبيت جبرين من أرض فلسطين ، وسار المسلمون إلى أجنادين ، وكان الأمراء أربعة والناس أرباعا إلا عمرو بن العاص كان يزعم أنه جميعهم . . . .

فلما اجتمعت العساكر وتدانت ، بعث صاحب الروم رجلا عربيا ليأتي بخبر المسلمين ، فخرج الرجل ودخل مع المسلمين [ ص: 189 ] وأقام فيهم يوما وليلة لا ينكر ، ثم أتى الروم فقالوا له : ما وراءك ؟ فقال : أما بالليل فرهبان ، وأما بالنهار ففرسان ، ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده ، ولو زنى رجموه ، لإقامة الحق فيهم .

ثم تزاحف الناس فاقتتلوا قتالا شديدا ، فقال صاحبهم لهم : لفوا رأسي في ثوب ، قالوا له : ولم ؟ قال : يوم موقف البئيس لا أحب أن أراه ، ما رأيت في الدنيا أشد منه ، وكانت الهزيمة على الروم ، فلقد قتل صاحبهم ، وإنه لملفف في ثوبه ، وكان لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة ، فقتلبأجنادين من المسلمين : نعيم بن عبد الله النحام ، وهشام بن العاص بن وائل ، وعمرو بن عكرمة ، والطفيل بن عمرو الدوسي ، وعبد الله بن عمرو حليف لهم ، وجندب بن عمرو بن حممسة الدوسي ، وضرار بن [ ص: 190 ] الأزور ، وطليب بن عمرو بن وهب ، ومسلمة بن هشام بن المغيرة ، وهبار بن سفيان بن الأسود ، والحارث بن الحارث ، والحجاج بن الحارث ، وقيس بن صخر ، ونعيم بن عامر .

التالي السابق


الخدمات العلمية