الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلما دخل شهر ذي الحجة حج عمر بن الخطاب سنة إحدى عشرة ، واشترى مولاه أسلم في حجته تلك ، ثم رجع إلى المدينة .

ثم وجه أبو بكر خالد بن الوليد إلى اليمامة ، وكان مسيلمة قد تنبأ بها في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،  وكان أمره ضعيفا ، ثم وفد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجع إلى قومه ، فشهد رجال بن عنفوة لأهل اليمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أشركه في الأمر ، فعظم فتنة عليهم .

وخرج خالد بن الوليد بالمهاجرين والأنصار حتى إذا دنا من اليمامة نزل واديا من أوديتهم ، فأصاب في ذلك الوادي مجاعة بن مرارة في عشرين رجلا ، منهم كانوا خرجوا يطلبون رجلا من بني تميم ، وكان أصاب لهم دما في الجاهلية ، فلم يقدروا عليه ، فباتوا بذلك الوادي ، فلم ينبههم إلا خيل المسلمين قد وقفت عليهم ، فقالوا : من القوم ؟ فقالوا : بنو حنيفة ، قال : فلا أنعم لكم علينا ، ثم نزلوا فاستوثقوا منهم ، فلما أصبح دعاهم خالد بن الوليد فقال : يا بني حنيفة ما تقولون ؟ فقالوا : منا نبيء ومنكم نبيء [ ص: 173 ] فعرضهم خالد على السيف حتى بقي سارية بن عامر ومجاعة بن مرارة ، فقال له سارية : يا أيها الرجل إن كنت تريد هذه القرية فاستبق هذا الرجل ، وأوثق مجاعة في الحديد ، ودفعه إلى أم تميم امرأته ، وقال : استوصي به خيرا ، وضرب عنق سارية بن عامر ، ثم سار بالمسلمين حتى نزل على كثيب مشرف على اليمامة ، وضرب معسكره هناك ، وخرج أهل اليمامة مع مسيلمة ، وتصاف الناس ، وكان خالد جالسا على سريره ، ومجاعة مكبل عنده ، والناس على مصافهم ، إذ رأى بارقة في بني حنيفة ، فقال خالد : أبشروا يا معشر المسلمين ، قد كفاكم الله عدوكم ، واختلف القوم فكر مجاعة إليه وهو مكبل ، فقال : كلا والله إنها الهندوانية خشوا من تحطمها فأبرزوها للشمس لتلين لهم ، فكان كما قال ، فلما التقى الناس كان أول من خرج رجال بن عنفوة فقتل ، واقتتل المسلمون قتالا شديدا حتى انهزم المسلمون ، وخلص أصحاب مسيلمة إلى الرحال ، ودخلوا فسطاط خالد بن الوليد ، وفيه مجاعة مكبلا عند أم تميم امرأة خالد ، فحمل عليها رجل بالسيف ، فقال مجاعة : أنا لها جار فنعمت الحرة ، عليكم بالرجال ، فرحبلوا الفسطاط بالسيف ، ثم إن المسلمين تداعوا ، فقال ثابت بن قيس بن شماس [ ص: 174 ] : بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين ، اللهم إني أبرأ إليك مما يصنع هؤلاء المسلمون ، ثم أخذ سيفه حتى جالد به حتى قتل ، ورأى زيد بن الخطاب انكشاف المسلمين عن رحالهم ، فتقدم فقاتل حتى قتل ، وقام البراء بن مالك أخو أنس بن مالك ، وكان البراء - فيما يقال - إذا حضر البأس أخذه انتفاض حتى يقعد عليه الرجال ثم يبول في سراويله ، فإذا بال صار مثل السبع ، فلما رأى ما صنع المسلمون من الانكشاف ، وما رأى من أهل اليمامة أخذه الذي كان يأخذه حتى قعد عليه الرجال ، فلما بال وثب ، فقال : أين يا معشر المسلمين ؟ أنا البراء بن مالك ، هلموا إلي ، فاجتمع عنده جماعة من المسلمين ، فقاتل القوم قتالا شديدا حتى خلصوا إلى محكم اليمامة ، وهو محكم بن الطفيل ، فلما بلغه القتال قال : يا معشر بني حنيفة ، الآن والله تستحقب الكرائم غير رضيات وينكحن غير حظيات ، فما كان عندكم من حسب فأخرجوه ، ثم تقدم فقاتل قتالا شديدا ، فرماه عبد الرحمن بن أبي بكر بسهم فوضعه في نحره فقتله ، وزحف المسلمون حتى ألجأوهم إلى الحديقة ، وفيها مسيلمة ، فقال البراء بن مالك : يا معشر المسلمين ارموني عليهم في الحديقة ، فقال الناس : لا تفعل يا براء ، فقال : والله [ ص: 175 ] أفعل ، فاحتمل حتى أشرف على الجدار ، فاقتحم ، فقاتلهم حتى فتحها الله للمسلمين ، ودخل عليهم المسلمون ، وقتل مسيلمة ، اشترك وحشي بن حرب مولى جبير بن مطعم ورجل من الأنصار في قتله ، فرماه وحشي بحربته وضربه الأنصاري بسيفه ، فكان وحشي يقول : ربك أعلم أينا قتله ، قلت : خير الناس وشر الناس .

فلما فرغ المسلمون من مسيلمة وأتى خالدا الخبر ، فخرج بمجاعة في الحديد يرسف معه ليدله على مسيلمة ، وكان يكشف القتلى حتى مر بمحكم بن الطفيل ، وكان رجلا جسيما وسيما ، فقال خالد : هذا صاحبكم ؟ فقال مجاعة : لا هذا والله خير منه وأكرم ، هذا محكم اليمامة ، ثم دخلوا الحديقة وقلبا القتلى ، فإذا رويجل أصيفر أخينس ، فقال مجاعة : إنه والله ما جاءك إلا سرعان الناس وإن جماهير الناس في الحصون ، قال : ويلك ما تقول ؟ قال : والله إن ذلك لحق فهلم أصالحك على قومي ، فصالحه خالد بن الوليد على الصفراء والبيضاء والحلقة ونصف السبي ، ثم قال لمجاعة : امض إلى القوم فاعرض ما صنعت ، فانطلق إليهم ، ثم قال للنساء : البسن الحديد ، ثم أشرفن على الحصون ، ثم انتهى إلى خالد قال : إنهم لم يرضوا على مصالحتك عليه ، ولكن إن شئت شيئا صنعت وعرضت على القوم ، قال : ما هو ؟ قال : تأخذ ربع السبي ربعا ، قال خالد : [ ص: 176 ] قد فعلت ، قال : قد صالحتك ، فلما فرغا دخلوا الحصن ، فإذا ليس رجل واحد رماهم إلا النساء والصبيان ، فقال خالد لمجاعة : خدعتني ، قال : قومي .

ثم بعث أبو بكر إلى خالد بن الوليد بسلمة بن سلامة بن وقش يأمره أن لا يستبقي من بني حنيفة رجلا قد أنبت ، فأتاه سلمة وقد فرغ خالد من الصلح .

ثم إن خالدا قد بعث وفدا من بني حنيفة إلى أبي بكر ، فقدموا عليه ، فقال أبو بكر : ويحكم ما هذا الرجل الذي استزل منكم ما استزل ؟ قالوا : يا خليفة رسول الله قد كان الذي بلغك ، وكان امرأ لم يبارك الله له ولا لعشيرته فيه ، قال أبو بكر : على ذلك ما دعاكم إليه ؟ قالوا : كان يقول : يا ضفدع نقي نقي ، لا الشراب تمنعين ، ولا الماء تكدرين ، لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشا قوم يعتدون ، فقال أبو بكر : سبحان الله سبحان الله .

فلما فرغ خالد من الصلح نزل واديا من أودية اليمامة ، فبينما هو قاعد [ ص: 177 ] إذ دخل عليه رجل من بني حنيفة يقال له : سلمة بن عمير ، فقال لمجاعة : استأذن لي على الأمير ، فإن لي إليه حاجة ، فأتى عليه مجاعة ، ثم قال مجاعة : إني والله لا أعرف الشر في وجهه ، ثم نظر فإذا هو مشتمل على السيف فقال : ما لك لعنك الله ؟ أردت أن تستأصل بني حنيفة ، والله لئن قتلته ما ترك في بني حنيفة صغير ولا كبير إلا قتل ، فانقلب الرجل ومعه سيفه ، فوقع في حائط من حوائط اليمامة ، وحبس به المسلمون ، فدخلوا خلف الحائط فقتل .

التالي السابق


الخدمات العلمية