الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فلما دخلت السنة الحادية والعشرون : مات خالد بن الوليد بحمص ، وأوصى إلى عمر بن الخطاب .

ثم كان فتح نهاوند  وأميرها النعمان بن مقرن ، وذلك أن أهل الري وأصبهان وهمذان ونهاوند تعاقدوا وتعاهدوا وقالوا : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبي العرب الذي أقام لها دينها مات ، وإن ملكهم من بعده ملك يسير - يعني أبا بكر - ثم هلك ، وإن عمر قد طال ملكه ومكثه وتأخر أمره حتى جيش إليكم الجيوش في بلادكم ، وليس بمنقطع عنكم حتى تسيروا إليهم في بلادهم فتقتلوهم ، فلما بلغ الخبر أهل الكوفة من المسلمين كتبوا إلى عمر ، فلما أخذ عمر الصحيفة مشى بها إلى منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو باك وجعل ينادي : أين المسلمون ؟! أين المهاجرون والأنصار ؟! من هاهنا من المسلمين ؟! فلم يزل ينادي حتى امتلأ عليه المسجد رجالا ، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد أيها الناس ، فإن الشيطان قد جمع لكم جموعا كثيرة [ ص: 225 ] وأقبل بها عليكم ، ألا وإن أهل الري وأصبهان وأهل همذان وأهل نهاوند أمم مختلفة ألوانها وأديانها ، ألا وإنهم تعاقدوا وتعاهدوا على أن يسيروا إليكم فيقتلوكم ، ألا وإن هذا يوم له ما بعده من الأيام ، ألا فأشيروا علي برأيكم ، فقام طلحة بن عبيد الله فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد يا أمير المؤمنين ، فقد حنكتك البلايا وعجمتك التجارب ، وقد ابتليت يا أمير المؤمنين واختبرت ، فلم ينكشف شيء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيار ، وأنت يا أمير المؤمنين ميمون النقيبة ، مبارك الأمر ، فمرنا نطع ، وادعنا نجب ، واحملنا نركب ، فأثنى عمر على طلحة خيرا ثم جلس ، فقام عثمان بن عفان فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا أمير المؤمنين إني أرى أن تكتب إلى أهل الشام فيسيرون إليك من شامهم ، وتكتب إلى أهل اليمن فيسيرون من يمنهم ، وتسير أنت بمن معك من أهل هذين الحرمين إلى هذين المصرين ، فإنك لو فعلت ذلك كنت أنت الأعز الأكبر ، وإن هذا يوم له ما بعده من الأيام ، وأثنى عليه عمر فجلس ، فقام علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد يا أمير المؤمنين ، فإنك إن تكتب إلى أهل الشام أن يسيروا [ ص: 226 ] إليك من شامهم إذا تسير الروم إلى ذراريهم فتسبيهم ، وإن تكتب إلى أهل اليمن أن يسيروا إليك من يمنهم إذا تسير الحبشة إلى ذراريهم فتسبيهم ، وإن سرت أنت بمن معك من أهل هذين الحرمين إلى هذين المصرين إذا والله انتقضت عليك الأرض من أقطارها وأكنافها ، وكان والله يا أمير المؤمنين من تخلف وراءك من العورات والعيالات أهم إليك مما بين يديك من العجم ، والله يا أمير المؤمنين لو أن العجم نظروا إليك عيانا إذا لقالوا : هذا عمر ، هذا إريس العرب ، وكان والله أشد لحربهم وجرأتهم عليك ، وأما ما كرهت من مسير هؤلاء القوم فإن الله أكره لمسيرهم منك ، وهو أقدر على تغيير ما كره ، وأما ما ذكرت من كثرتهم ، فإنا كنا ما نقاتل مع نبينا بالكثرة ، ولكنا نقاتل معه بالنصرة من السماء ، وأنا أرى يا أمير المؤمنين رأيا من تلقاء نفسي ، رأيي أن تكتب إلى أهل البصرة فيفترقوا على ثلاث فرق : فرقة تقيم في أهل عهودهم بأن لا ينتقضوا عليهم ، وفرقة تقيم من ورائهم في ذراريهم ، وفرقة تسير إلى إخوانهم بالكوفة مددا لهم ، فطبق عمر ثم أهل مكبرا يقول : الله أكبر الله أكبر ! هذا رأي هذا رأي ! كنت أحب أن أتابع صدق ابن أبي طالب ، لو خرجت بنفسي لنقضت علي [ ص: 227 ] الأرض من أقطارها ، ولو أن العجم نظروا إلي عيانا ما زالوا عن العرص حتى يقتلوني أو أقتلهم ، أشر علي يا علي بن أبي طالب برجل أوليه هذا الأمر ! قال : ما لي ولهم ، هم أهل العراق وفدوا عليك ورأوك ورأيتهم وتوسمتهم وأنت أعلمنا بهم ، قال عمر : إن شاء الله لأولين الراية غدا رجلا يكون لأول أسنة يلقاها ، وهو النعمان بن مقرن المزني ، ثم دعا عمر السائب بن الأقرع الكندي فقال : يا سائب ، أنت حفيظ على الغنائم بأن تقاسمها ، فإن الله أغنم هذا الجيش شيئا فلا تمنعوا أحدا حقا هو له ، ثكلتك أمك يا سائب ، وإن هذا الجيش هلك فاذهب عني في عرض الأرض فلا أنظر إليك بواحدة ، فإنك تجيئني بذكر هذا الجيش كلما رأيتك .

ثم كتب إلى أهل الكوفة : سلام عليكم ، أما بعد فقد استعملت عليكم النعمان بن مقرن المزني ، فإن قتل النعمان فعليكم حذيفة بن اليمان العبسي ، فإن قتل حذيفة فعليكم عبد الله بن قيس الأشعري أبو موسى ، فإن قتل أبو موسى فعليكم جرير بن عبد الله البجلي ، فإن قتل جرير فعليكم المغيرة بن شعبة الثقفي ، فإن قتل المغيرة فعليكم الأشعث بن قيس الكندي .

ثم كتب عمر إلى النعمان بن مقرن : فإن في جندك رجلين عمرو بن معد يكرب المذحجي ، وطليحة بن خويلد الأسدي ، فأحضرهما [ ص: 228 ] وشاورهما في الحرب ، وإياك أن توليهما عملا ، فإن كل صانع أعلم بصناعته .

فلما ورد عليه الكتاب سار بالناس ، فالتقى المسلمون والمشركون بنهاوند ، فأقبل المشركون يحمون أنفسهم وخيولهم ثلاثا ، ثم نهض إليهم المسلمون يوم الأربعاء فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى وفشت الجرحى والصرعى في الفريقين جميعا ، ثم حجز بينهما الليل ورجع الفريقان إلى عسكريهما ، وبات المسلمون ولهم أنين من الجراحات ، يعصبون بالخرق ويبكون حول مصاحفهم ، وبات المشركون في معازفهم وخمورهم .

ثم غدوا يوم الخميس فاقتتل المشركون ، وقاتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى وفشت الجرحى في الفريقين جميعا ، ثم حجز بينهما الليل ، ورجع الفريقان إلى عسكريهما ، وبات المسلمون لهم أنين من الجراحات يعصبون بالخرق ويبكون حول مصاحفهم ، وبات المشركون في معازفهم وخمورهم .

ثم غدا النعمان بن مقرن يوم الجمعة - وكان رجلا قصيرا أبيض - على برذون أبيض قد أعلم بالبياض ، فجعل يأتي راية راية يحرضهم على القتال [ ص: 229 ] ويقول : الله الله في الإسلام أن تخذلوه ، فإنكم باب بين المسلمين وبين المشركين ، فإن كسر هذا الباب دخلوا على المسلمين ، يا أيها الناس إني هاز لكم الراية مرة فليتعاهد الرجل الخيل في حزمها وأعنتها ، ألا وإني هاز لكم الثانية فلينظر كل رجل منكم إلا موقف فرسه ومضرب رمحه ووجه مقاتله ، ألا وإني هاز لكم الثالثة ومكبر ، فكبروا الله واذكروه ، ومستنصر فاستنصروه ، ألا فحامل فاحملوا ، فقال رجل : قد سمعنا مقالتك ، وحفظنا وصيتك ، فأخبرنا بأي النهار يكون ذلك حتى يكونوا على آلة وعدة ، قال النعمان : ليس يمنعني أن يكون ذلك من أول النهار إلا شيء شهدته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غزا فلم يقاتل أول النهار لم يعجل بالقتال حتى تزول الشمس وتهب الرياح ويطيب القتال وتحضر الصلاة ، وينزل النصر من السماء مع مواقيت الصلاة في الأرض  ، فمكث المسلمون ينظرون إلى الراية ويراعونها حتى إذا زالت الشمس عن كبد السماء هز النعمان الراية هزة ، فانتزعوا المخالي عن الخيول وقرطوها الأعنة ، وأخذوا أسيافهم بأيمانهم والأترسة بشمائلهم ، وصلى كل رجل منهم ركعتين يبادر بهما ، ثم هز النعمان الراية ثانيا ، فوضع كل رجل منهم رمحه بين أذني فرسه ، ولزمت [ ص: 230 ] الرجال منهم نحور الخيل ، وجعل كل رجل يقول لصاحبه : أي فلان تنح عني لأوطئك بفرسي ، إني أرى وجه مقاتلي ، إني غير راجع إن شاء الله حتى أقتل أو يفتح الله علي ، ثم هز الثالثة فكبر ، فجعل الناس يكبرون الأول فالأول الأدنى فالأدنى ، وقذف الله الرعب في قلوب المشركين حتى أن أرجلهم كانت تخفق في الركب ، فلم يستطع منهم أحد أن يوتر قوسه ثم ولوا مدبرين.

وحمل النعمان وحمل الناس فكان النعمان أول قتيل قتل من المسلمين ، جاءه سهم فقتله ، فجاء أخوه معقل بن مقرن فغطى عليه بردا له ، ثم أخذ الراية وإنها لتنضح دما من دماء من قتله بها النعمان قبل أن يقتل ، فهزم الله المشركين ، وفتح على المسلمين ، وبايع الناس لحذيفة بن اليمان ، فجمع السائب بن الأقرع الغنائم كأنها الآكام ، فجاءه دهقان من دهاقينهم فقال : هل لك أن تؤمنني على دمي ودم أهل بيتي ودم كل ذي رحم لي وأدلك على كنز عظيم ؟ قال : نعم ، قال : خذوا المكاتل والمعاول فامشوا ، فمشوا معه حتى انتهى إلى مكان ، قال : احفروا ، فحفروا فإذا هم بصخرة ، قال : اقلعوها ، فقلعوا فإذا هم بسفطين من فصوص يضيء ضوؤها كأنها شهب تتلألأ ، فأعطى السائب كل ذي حق حقه من الغنائم ، وحمل السفطين [ ص: 231 ] حتى قدم بهما على عمر ، فلما نظر عمر إلى السائب ولى باكيا ، ثم أقبل يقول : يا سائب ، ويحك ، ما وراءك ؟ ما فعلت ؟ ما فعل المسلمون ؟ قال السائب : خير يا أمير المؤمنين ، هزم الله المشركين وفتح للمسلمين ، قال : ويحك يا سائب ، والله ما أتت ليلة بعد ليلة بات فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا ميتا مثل البارحة ، لا والله ما بت البارحة إلا تقديرا ، فما فعل النعمان بن مقرن ؟ قال : استشهد يا أمير المؤمنين ، فبكى عمر ثم قال : يرحم الله النعمان - ثلاثا - ، ثم قال : مه ، قال : لا والذي أكرمك بالخلافة وساقها إليك ما قتل بعد النعمان أحد نعرفه ، فبكى عمر بكاء شديدا ثم قال : الضعفاء لكن الله أكرمهم بالشهادة وساقها إليهم ، أدفنتم إخوانكم ؟ لعلكم غلبتم على أجسادهم وخليتم بين لحومهم والكلاب والسباع ، أخشى أن يكونوا أصيبوا بأرض مضبعة ، قال السائب : هون عليك يا أمير المؤمنين ، فقد أكرمهم الله بالشهادة وساقها إليهم ، ثم قال عمر : أعطيت كل ذي حق حقه ؟ فقال : نعم ، فنفض عمر رداءه ثم ولى باكيا ، فأخذ السائب بطرف ردائه ثم قال : اجلس يا أمير المؤمنين ، فإن لي إليك حاجة ، قال : وما حاجتك ؟ ألم تخبرني أنك أعطيت كل ذي حق حقه ؟ قال : بلى ، قال : فما حاجتك إلي ؟ فأبدى له عن السفطين فصوصهما كأنها شهب تتلألأ ، فقال عمر : [ ص: 232 ] ما هذا ؟ فأخبره السائب خبر الدهقان ، فصعد فيها بصره وخفضه ثم قال : ادع لي عليا ، وعبد الرحمن بن عوف ، وابن مسعود ، وعبد الله بن الأرقم ، فلما اجتمعوا عنده قال السائب : لم يكن لي هم إلا أن أنفلت من عمر ، فركبت راحلة لي وأتيت الكوفة ، فوالله ما جفت بردعة راحلتي حتى أتاني كتاب عمر : عزمت عليك إن كنت قاعدا لا قمت ، وإن كنت قائما لا قعدت إلا على راحلتك ، ثم العجل العجل ، فقلت للرسول : هل كان في الإسلام حدث ؟ قال : لا ، قلت : فما حاجته إلي ؟ قال : لا أدري ، فركبت راحلتي حتى أتيت عمر ، فلما نظر إلي أقبل علي بدرته يضربني بها حتى سبقته إلى غيره وهو يقول : ما لي ولك يا ابن أم مليكة ؟! أعن ديني تفارقني أم النار توردني ؟ قلت : دعني عنك يا أمير المؤمنين ، لا تقتلني غما ، قال عمر : فإنك لما خرجت من عندي فأويت إلى فراشي جاءني ملائكة من عند ربي في جوف الليل ، فرموني بسفطين هذين ، فإذا حملتهما فإذا نار توقد على جنبي ، فجعلت أتأخر وجعلوا يدفعونني إليهما ، حتى تعاهدت ربي في هذا إن هو تركني حتى أصبح لأقسمن على من أفاء الله عليه ، اخرج بهما من عندي لا حاجة لي بهما . . . [ ص: 233 ] بعهما بعطية المقاتلة والذرية ، فإن لم تصب إلا عطية أحد الفريقين فبع ثم اقسمهما على من أفاء الله عليه ، والله لئن شكا المسلمون قبل أن تقسم بينهم لأجعلنك نكالا لمن بعدك ، قال السائب : فخرجت بهما من عنده حتى قدمت الكوفة فأخرجتهما إلى الزحمة ، فأبديت عنهما فلاح ضوءهما كأنهما شهب تتلألأ ، فجعل لا يأتي عليهما قوم إلا صفقوا تعجبا منهما ، حتى أتاني عمرو بن حريث ، فلما نظر إليهما استأمني بهما ، فقلت : بعطية المقاتلة والذرية ، فما كلمني حتى صفق على يدي وأوجبت له البيع ، فخرج بهما إلى الحيرة ، فباع أحدهما بعطية المقاتلة والذرية ، واستفضل الآخر ربحا ، فكان أول شيء اعتقله بالكوفة مالا .

ثم سار المغيرة بالمسلمين إلى مدينة آذربيجان فصالحه أهلها على ثمانمائة ألف درهم في كل سنة .

ثم غزا حذيفة بن اليمان الدينور فافتتحها عنوة ، وكانت قبل ذلك [ ص: 234 ] فتحت لسعد فانتقضت ، ثم غزا حذيفة ماه سندان فافتتحها عنوة ، وكانت قبل ذلك فتح لسعد فانتقضت ، ثم غزا حذيفة همذان فافتتحها عنوة .

ثم ولى عمر عمار بن ياسر الكوفة على الصلاة والحرب ، وعبد الله بن مسعود على بيت المال ، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض ، فشكا أهل الكوفة عمارا وقالوا : رجل لا يعلم ، فاستعفى عمار ، ودعا عمر جبير بن مطعم خاليا ليوليه الكوفة وقال له : لا تذكره لأحد ، فبلغ المغيرة بن شعبة أن عمر قد خلا بجبير بن مطعم ، فرجع إلى امرأته وقال لها : اذهبي إلى امرأة جبير بن مطعم فاعرضي عليها متاع السفر ، فأتتها فعرضت عليها فاستعجمت عليها ثم قالت : ائتيني به ، فلما استيقن المغيرة بذلك جاء إلى عمر وقال : بارك الله لك فيمن وليت ، وأخبره أنه ولى جبير بن مطعم فقال عمر : لا أدري ما أصنع ؟ فولى المغيرة بن شعبة الكوفة ، فلم يزل عليها إلى أن مات عمر .

ثم مضى عمرو بن العاص إلى برقة طرابلس ففتحها ، وصالح أهل برقة على اثني عشر ألف دينار ، وبعث عقبة بن نافع الفهري فافتتح [ ص: 235 ] لعمر زويلة بالصلح ، وكان بين برقة وزويلة صلح للمسلمين . وحج عمر بالناس ، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت .

التالي السابق


الخدمات العلمية