وفي السنة الخامسة والثلاثين : خرج جماعة من أهل مصر  إلى عثمان  يشكون ابن أبي سرح  ويتكلمون منه ، فكتب إليه عثمان  كتابا وهدده فيه فأبى ابن أبي السرح  أن يقبل من عثمان ،  وضرب بعض من أتاه من قبل عثمان  متظلما ، وقتل رجلا من المتظلمة ، فخرج من أهل مصر  سبعمائة رجل فيهم أربعة من الرؤساء : عبد الرحمن بن عديس البلوي ،  وعمرو بن الحمق الخزاعي  ، وكنانة بن بشر بن عتاب الكندي  ، وسودان بن حمران المرادي ،  فساروا حتى قدموا المدينة  ونزلوا مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وشكوا إلى أصحاب محمد   - صلى الله عليه وسلم - في مواقيت الصلاة ما صنع بهم ابن أبي سرح ،  فقام طلحة بن عبيد الله  إلى  عثمان بن عفان  وكلمه الكلام الشديد ، وأرسلت إليه  عائشة :  قدم عليك أصحاب محمد  وسألوك  [ ص: 257 ] عزل هذا الرجل فأبيت ذلك بواحدة ، وهذا قد قتل منهم رجلا ، فأنصفهم من عاملك ، وكان عثمان  يحب قومه ، ثم دخل عليه  علي بن أبي طالب  فقال : سألوك رجلا مكان رجل ، وقد ادعوا قبله دما ، فاعزله عنهم ، واقض بينهم ، فإن وجب عليه حق فأنصفهم منه ،  فقال لهم عثمان :  اختاروا رجلا أوليه عليكم مكانه ، فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر ،  فقالوا لعثمان :  استعمل علينا محمد بن أبي بكر ،  فكتب عهده وولاه مصر ،  فخرج محمد بن أبي بكر  واليا على مصر  بعهده ، ومعه عدة من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بين أهل مصر  وبين ابن أبي سرح ،  فلما بلغوا مسيرة ثلاث ليال من المدينة  إذا هم بغلام أسود على بعير له يخبط البعير خبطا كأنه رجل يطلب أو يطلب ، فقالوا له : ما قصتك ؟ وما شأنك ، كأنك هارب أو طالب ؟ قال : أنا غلام أمير المؤمنين وجهني إلى عامل مصر   . قالوا : هذا عامله معنا . قال : ليس هذا أريد ، ومضى ، فأخبر محمد بن أبي بكر  بأمره ، فبعث في طلبه أقواما ، فردوه ، فلما جاؤوا به ، قال له محمد : غلام من أنت ؟ فأقبل مرة يقول : أنا غلام أمير المؤمنين ، ومرة يقول : أنا غلام مروان  ، فعرفه رجل منهم أنه لعثمان ،  فقال له محمد بن أبي بكر :  لمن أرسلت ؟ قال : إلى عامل مصر   . قال : بماذا ؟ قال : برسالة . قال : أمعك كتاب ؟ قال :  [ ص: 258 ] لا ، ففتشوه ، فلم يجدوا معه كتابا ، وكان معه إداوة قد يبست ، وفيها شيء يتقلقل ، فحركوه ليخرج ، فلم يخرج فشقوا الإداوة ، فإذا فيها كتاب من عثمان  إلى ابن أبي سرح ،  فجمع محمد بن أبي بكر  من كان معه من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، ثم فك الكتاب بحضرتهم ، فإذا فيه : إذا أتاك محمد بن أبي بكر ،  وفلان وفلان فاحتل لقتلهم ، وأبطل كتابه ، وقر على عملك ، واحبس من يجيء إلي يتظلم منك حتى يأتيك رأيي في ذلك إن شاء الله . فلما قرؤوا الكتاب فزعوا وأزمعوا ورجعوا إلى المدينة  وختم محمد بن أبي بكر  الكتاب بخواتم جماعة من المهاجرين معه ، ودفع الكتاب إلى رجل منهم ، وانصرفوا إلى المدينة ،  فلما قدموها جمع محمد بن أبي بكر  عليا  وطلحة  والزبير  وسعدا ،  ومن كان بها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم فك الكتاب بحضرتهم عليه خواتم من معه من المهاجرين ، وأخبرهم بقصة الغلام ، فلم يبق أحد من المدينة  إلا حنق على عثمان ،  وقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلحقوا بمنازلهم ما منهم أحد إلا هو مغتم ، وكانت هذيل  وبنو زهرة  في قلوبها ما فيها على عثمان  لحال  ابن مسعود   . 
وكانت بنو مخزوم  قد حنقت على عثمان  لحال  عمار بن ياسر ،  وكانت بنو غفار  وأحلافها  [ ص: 259 ] ومن غضب  لأبي ذر  في قلوبهم ما فيها ، وأجلب عليه محمد بن أبي بكر  من بني تيم ،  وأعانه على ذلك طلحة بن عبيد الله   وعائشة ،  فلما رأى ذلك علي  ، وصح عنده الكتاب ; بعث إلى طلحة  والزبير  وسعد  وعمار  ونفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم بدريون ، ثم جاء معهم حتى دخل على عثمان ،  ومعه الكتاب والغلام والبعير ، فقال له : هذا الغلام غلامك ؟ قال : نعم . قال : والبعير بعيرك ؟ قال : نعم . قال : فأنت كتبت هذا الكتاب ؟ قال : لا ، وحلف بالله أنه ما كتب هذا الكتاب ولا أمر به ، فقال له علي :  فالخاتم خاتمك ؟ قال : نعم . قال علي :  فكيف يخرج غلامك على بعيرك بكتاب عليه خاتمك لا تعلم به ؟ ! فحلف عثمان  بالله : ما كتبت هذا الكتاب ، ولا أمرت به ، ولا وجهت هذا الغلام قط إلى مصر ،  وأما الخط فعرفوا أنه خط مروان ،  فلما شكوا في أمر عثمان  سألوه أن يدفع إليهم مروان ،  فأبى ، وكان مروان  عنده في الدار ، وكان خشي عليه القتل ، فخرج من عنده علي  وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلموا أن عثمان  لا يحلف باطلا ، ثم قالوا : لا نسكت إلا أن يدفع إلينا مروان  حتى نبحث ونتعرف منه ذلك الكتاب ، وكيف يؤمر بقتل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير حق ! فإن يك عثمان  كتب ذلك عزلناه ، وإن يك مروان  كتبه على لسان عثمان  نظرنا  [ ص: 260 ] ما يكون في أمر مروان ،  ولزموا بيوتهم ، وفشا الخبر في المسلمين من أمر الكتاب ، وفقد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنعثمان  ، وخرج من الكوفة  عدي بن حاتم الطائي  والأشتر مالك بن الحارث النخعي  في مائتي رجل ، وخرج من البصرة  حكيم بن جبلة العبدي  في مائة رجل حتى قدموا المدينة  يريدون خلع عثمان ،  وحوصر عثمان  قبل هلال ذي القعدة بليلة ، وضيق عليه المصريون والبصريون وأهل الكوفة  بكل حيلة ، ولم يدعوه يخرج ولا يدخل إليه أحد إلا أن يأتيه المؤذن ، فيقول : الصلاة ، وقد منعوا المؤذن أن يقول : يا أمير المؤمنين ، فكان إذا جاء وقت الصلاة بعث  أبا هريرة  يصلي بالناس ، وربما أمر  ابن عباس  بذلك ، فصعد يوما عثمان  على السطح ، فسمع بعض الناس يقول : ابتغوا إلى قتله سبيلا . فقال : والله ما أحل الله ولا رسوله قتلي ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إسلام ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير نفس  . 
وما فعلت من ذلك شيئا . ثم قال : لا أخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بإراقة محجمة دم حتى ألقاه ، يا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،  [ ص: 261 ] أحبكم إلي من كف عنا لسانه وسلاحه ، ثم أشرف عليهم ، فقال : أفيكم علي  ؟ قالوا : لا . قال : أفيكم سعد  ؟ قالوا : لا ، فقال : أذكركم بالله ، هل تعلمون أن رومة  لم يكن يشرب منها أحد إلا بشيء ، فابتعتها من مالي ، وجعلتها للغني والفقير وابن السبيل ؟ فقالوا : نعم . قال : فاسقوني منها ، ثم قال : ألا أحد يبلغ عليا  فيسقينا ماء ؟ فبلغ ذلك عليا ،  فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ، فما كادت تصل إليه حتى خرج في سببها عدة من بني هاشم  وبني أمية  حتى وصل الماء إليه ، ثم قال عثمان :  والله لو كنت في أقصى داري ما طلبوا غيري ، ولو كنت أدناهم ما جازوني إلى غيري ، سنجتمع نحن وهم عند الله ، وسترون بعدي أمورا تتمنون أني عشت فيهم ، ضعف أمري ، والله ! ما أرغب في إمارتهم ، ولولا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لي : إذا ألبسك الله قميصا ، وأرادوك على خلعه فلا تخلعه ، لحبست في بيتي وتركتكم وإمارتكم ، ووالله لو فعلت ما تركوني ، وإنهم قد خدعوا وغروا ، والله لو أقتل لمت ، لقد كبر سني ورق عظمي ، وجاوزت أسنان أهل بيتي وهم على هذا لا يريدون تركي ، اللهم فشتت  [ ص: 262 ] أمرهم ، وخالف بين كلمتهم ، وانتقم لي منهم ، واطلبهم لي طلبا حثيثا ، وقد استجيب دعاؤه في كل ذلك  . 
ثم أمر  عثمان بن عفان   عبد الله بن عباس  على الحج ، فحج بالناس فأمره وبعث إلى الأشتر  فدعاه ، فقال : يا أشتر ، ما يريد الناس ؟ قال : ثلاث ليس من إحداهن بد : إما أن تخلع أمرهم وتقول هذا أمركم فاختاروا له من شئتم ، وإما أن تقص من نفسك ، فإن أبيتهما ، فالقوم قاتلوك . قال عثمان :  أما أن أخلع لهم أمرهم فما كنت لأخلع سربالا سربلنيه الله ، والله لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أخلع أمة محمد  صلى الله عليه وسلم بعضها على بعض ، وأما أن أقص من نفسي ، فوالله لقد علمتم أني لم آت شيئا يجب علي القصاص فيه ، وأما أن تقتلوني فوالله إن تقتلوني لا تتحابون بعدي ، ولا تقاتلون بعدي عدوا جميعا ، ولتختلفن حتى تصيروا هكذا ، ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح   . الآية . ثم أرسل إلى  [ ص: 263 ]  عبد الله بن سلام ،  فجاءه ، فقال : الكف ! الكف ! ثم جاءه  زيد بن ثابت ،  فقال : يا أمير المؤمنين ، هذه الأنصار بالباب ، فقال عثمان :  إن شاؤوا أن يكونوا أنصار الله منكم ، وإلا فلا . ثم جاءه  عبد الله بن الزبير  فقال : يا أمير المؤمنين ، اخرج ، فقاتلهم ، فإن معك من قد نصر الله بأقل منهم ، فلم يعرج على قول ابن الزبير ،  ثم قال : ائتوني برجل منهم أقرأ عليه كتاب الله ، فأتوه بصعصعة بن صوحان  وكان شابا ، فقال : ما وجدتم أحدا تأتوني به غير هذا الشاب ، فتكلم صعصعة بكلام ، فقال عثمان :  أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير   . 
فلما اشتد بعثمان  الأمر أصبح صائما يوم الجمعة ، وقال : إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقال لي : يا عثمان ،  إنك تفطر عندنا الليلة ، ثم قال علي  للحسن  والحسين :  اذهبا بسيفكما حتى تقفا على باب عثمان ،  ولا تدعا أحدا يصل إليه ، وبعث الزبير  ابنه ، وبعث طلحة  ابنه ، وبعث عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءهم يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان ،  ورماه الناس بالسهام حتى خضب الحسن بالدماء ، وتخضب محمد بن  [ ص: 264 ] طلحة ،  وشج قنبر مولى علي ،  ثم أخذ محمد بن أبي بكر  بيد جماعة ، وتسور الحائط من غير أن يعلم به أحد من دار رجل من الأنصار حتى دخلوا على عثمان  وهو قاعد والمصحف في حجره ، ومعه امرأته ، والناس فوق السطح لا يعلم أحد بدخولهم ، فقال عثمان  لمحمد بن أبي بكر :  والله لو رآك أبوك لساءه مكانك مني ، فرجع محمد ، وتقدم إليه سودان بن رومان المرادي  ومعه مشقص ، فوجأه حتى قتله وهو صائم ، ثم خرجوا هاربين من حيث دخلوا ، وذلك يوم الجمعة لثمان عشرة ليلة مضت من ذي الحجة ، وكان تمام حصاره خمسة وأربعين يوما ، وكانت امرأته تقول : إن شئتم قتلتموه ، وإن شئتم تركتموه ، فإنه كان يختم القرآن كل ليلة في ركعة ، ثم صعدت إلى الناس تخبرهم ، وهمر الناس عليه ، فدخلوا ، وأول من دخل عليه الحسن  والحسين  فزعين ، وهما لا يعلمان بالكائنة ، وكانا مشغولين على الباب ينصرانه ويمنعان الناس عنه ، فلما دخلوا وجدوا عثمان  مذبوحا ، فانكبوا عليه يبكون ، ودخل الناس فوجا فوجا ،  [ ص: 265 ] وبلغ الخبر  علي بن أبي طالب  وطلحة  والزبير  وسعدا ،  فخرجوا مذهلين كادت عقولهم تذهب لعظم الخبر الذي أتاهم حتى دخلوا على عثمان ،  فوجدوه مقتولا ، واسترجعوا . وقال علي  لابنيه : كيف قتل أمير المؤمنين ، وأنتما على الباب ؟ ! قالا : لم نعلم . قال : فرفع يده ولطم الحسن  ، وضرب صدر الحسين  ، وشتم محمد بن طلحة   وعبد الله بن الزبير ،  ثم خرج وهو غضبان يسترجع ، فلقيه طلحة بن عبيد الله ،  فقال : ما لك يا أبا الحسن ؟ فقال علي :  يقتل أمير المؤمنين رجل من أصحاب محمد  صلى الله عليه وسلم من غير أن تقوم عليه بينة ولا حجة ، فقال له طلحة :  لو دفعه مروان  إليهم لم يقتلوه ، فقال علي :  لو خرج مروان  إليكم لقتلتموه قبل أن يثبت عليه حكومة ، ثم أتى علي  منزله يسترجع ، فاشتغل الناس بعضهم ببعض ، وفزعوا ، ولم يتوهموا بأن هذه الكائنة تكون ، ثم حمل على سريره بين المغرب والعشاء ، وصلى عليه  جبير بن مطعم ،  ودلته في قبره نائلة بنت الفرافصة  وأم البنين بنت عيينة بن حصن بن بدر الفزاري ،  ودفن ليلة السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة ، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما . 
وقتل يوم قتل عثمان  من قريش عبد الله بن وهب بن زمعة الأسدي  ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن العوام  ، والمغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي ،   [ ص: 266 ] وقتل معهم غلام لعثمان  أسود ، أربعة أنفس . 
وكان عمال عثمان  حين قتل : على البصرة   :  عبد الله بن عامر بن كريز ،  وعلى الكوفة   :  سعد بن أبي وقاص ،  وعلى الشام :   معاوية بن أبي سفيان  ، وعلى مصر :  محمد بن أبي حذيفة ،  وعلى مكة   : عبد الله بن الحضرمي ،  وعلى الطائف :  القاسم بن ربيعة الثقفي  ، وعلى صنعاء   :  يعلى بن منبه  ، وعلى الجند   : عبد الله بن أبي ربيعة   . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					