[ ص: 356 ] فلما ثبت بالسنة المتواترة أن الجهاد يفضل مع العلم بأنه يقصر فيه الصلاة بقصر العمل الذي هو قصر العدد فإن قصر العدد سنة السفر ، وأما قصر العمل فسنة الخوف . ولهذا إذا اجتمع الأمران شرع القصر المطلق ، كما في قوله : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا   . والآية على ظاهرها; فإن القصر المطلق المتضمن لقصر العدد وقصر العمل إنما يكون مع الأمرين . وقد بينت السنة أن مجرد الخوف يفيد قصر العمل ، ومجرد السفر يفيد قصر العدد . 
فهذا كله مما يبين أن الصلاة وإن كانت أفضل الأعمال فإنها إذا اجتمعت مع الجهاد لم يترك واحد منهما ، بل يصلى بحسب الإمكان مع تحصيل مصلحة الجهاد بحسب الإمكان   . وقد قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون   . فأمر بالثبات والذكر معا . 
وكانت السنة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه وأصحابه وخلفاء بني أمية  وكثير من خلفاء بني العباس  أن أمير الحرب هو أمير الصلاة في المقام والسفر جميعا . 
وما ذكرناه يبين بعض حكمة كون النبي - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين  كان مقامهم بالمدينة  أفضل على أحد قولي العلماء; فإنهم كانوا بها مهاجرين  [ ص: 357 ] مجاهدين مرابطين بخلاف مكة   . 
وهذا حيث كان الإنسان كذلك كان أفضل من المقام بالحرمين  ، حتى إن  مالكا  رضي الله عنه -مع فرط تعظيمه المدينة  وتفضيله لها على مكة  وكراهية الانتقال منها- لما سئل عمن بدار وهو مقيم بالمدينة  يأتي الثغور كالإسكندرية  وغيره ، أجاب : بأن عليه أن يأتي الثغور; لأن المرابطة بالثغور أفضل من مقامه بالمدينة    . وما زال خيار المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم من بعدهم من الأمراء والمشايخ يتناوبون الثغور لأجل الرباط ، وكان هذا على عهد  أبي بكر   وعثمان  أكثر ، حتى كان عبد الله بن وغيره مرابطين . 
وكان  عمر  من يسأله عن أفضل الأعمال إنما يدله على الرباط والجهاد ، كما سأله عن ذلك من سأله ،  كالحارث بن هشام   وعكرمة بن أبي جهل  وصفوان بن أمية   وسهيل بن عمرو  وأمثالهم ، ثم كان بعد هؤلاء إلى خلافة بني أمية  وبني العباس   . ولهذا يذكر من فضائلهم وأخبارهم في الرباط أمور كثيرة . 
وكانوا على طريقتين : 
إحداهما : أن يرابط كل قوم بأقرب الثغور إليهم ، ويقاتلون من يليهم . كقوله : يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار   . 
وهذا اختيار أكثر العلماء  كالإمام أحمد  وغيره ، ولهذا كان أصحاب  [ ص: 358 ]  مالك  كابن القاسم  ونحوه يرابط بالثغور المصرية . 
والطريقة الثانية : يجوزون الرباط بثغور الشام  ونحوها بما فيه قتال النصارى . فكان  عبد الله بن المبارك  يقدم من خراسان  فيرابط بثغور الشام  ، وكذلك  إبراهيم بن أدهم  ونحوهما ، كما كان يرابط بها مشايخ الشام   كالأوزاعي  وحذيفة المرعشي   ويوسف بن أسباط   وأبي إسحاق الفزاري   ومخلد بن الحسين  وأمثالهم . وكان المسلمون قد فتحوا قبرص  في خلافة  عثمان  ، وبقيت تحت حكمهم أكثر من ثلاثمائة سنة . وكانت  "سيس"  ثغر المسلمين ، و"طرسوس"  كانت من أسماء الثغور ، ولهذا تذكر في كتب الفقه المصنفة في ذلك الوقت ، وتولى قضاءها أبو عبيد الإمام   وصالح بن أحمد بن حنبل  وغيرهما . 
وكان  ابن المبارك   وأحمد بن حنبل  وغيرهم يقولون : إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما عليه أهل الثغر ، فإن الحق معهم; لأن الله تعالى يقول : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا   . 
				
						
						
