فلما كانت السنة السادسة عشرة : أن يكتب التأريخ ، فاستشار أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم من قال من النبوة ، ومنهم من قال من الهجرة ، ومنهم من قال من الوفاة ، فأجمعوا على الهجرة عمر بن الخطاب ، وكتب التأريخ لسنة ست عشرة من الهجرة . أراد
سعد بن أبي وقاص سار بالمسلمين إلى المغيرة بن شعبة رستم ، حتى نزل قادس - قرية إلى جنب العذيب - وأقبل [ ص: 207 ] رستم في ستين ألفا من الجموع ممن أحصى في ديوانه سوى التبع والرقيق ، حتى نزل القادسية وبينهم وبين المسلمين جسر القادسية ، فلما وصل إلى وسعد في منزله وجع قد خرج به قرح شديد ، فبعث رستم إلى سعد أن ابعث إلي رجلا جلدا أكلمه ، فبعث إليه ففرق المغيرة بن شعبة ، المغيرة رأسه أربع فرق ثم عقص شعره ولبس برديه ، وأقبل حتى انتهى إلى رستم من وراء الجسر مما يلي العراق والمسلمون من الناحية الأخرى مما يلي الحجاز ، فلما دخل عليه المغيرة قال له رستم : إنكم معشر العرب ، كنتم أهل شقاء وجهد ، وكنتم تأتوننا من بين تاجر وأجير ووافد ، فأكلتم من طعامنا ، وشربتم من شرابنا ، واستظللتم بظلالنا ، فذهبتم فدعوتم أصحابكم وجئتم تؤذوننا ، وإنما مثلكم مثل رجل له حائط من عنب فرأى فيه أثر ثعلب فقال : وما بثعلب واحد ، فانطلق ذلك الثعلب حتى دعا الثعالب كلها إلى ذلك الحائط ، فلما اجتمعن فيه جاء صاحب الحائط فرآهن ، فسد الجحر الذي دخلن منه ، ثم قتلهن جميعا ، وأنا أعلم إنما حملكم على هذا معشر العرب الجهد الذي أصابكم ، فارجعوا عنا عامكم هذا ، فإنكم شغلتمونا عن عمارة بلادنا ، ونحن نوقر لكم ركائبكم قمحا وتمرا ، ونأمر لكم بكسوة فارجعوا عنا ، فقال [ ص: 208 ] : المغيرة بن شعبة لا يذكر منا جهد إلا وقد كنا في مثله أو أشد ، أفضلنا في أنفسنا عيشا الذي يقتل ابن عمه ويأخذ ماله فيأكله ، نأكل الميتة والدم والعظام ، فلم نزل على ذلك حتى بعث الله فينا نبينا وأنزل عليه الكتاب ، فدعانا إلى الله وإلى ما بعثه به ، فصدقه به منا مصدق ، وكذبه به منا مكذب ، فقاتل من صدقه من كذبه حتى دخلنا في دينه من بين موقن ومقهور حتى استبان لنا أنه صادق وأنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأمرنا أن نقاتل من خالفنا ، وأخبرنا أنه من قتل منا على ذلك فله الجنة ، ومن عاش ملك وظهر على من خالفه ، ونحن ندعوك إلى أن تؤمن بالله وبرسوله وتدخل في ديننا ، فإن فعلت كانت لك بلادك ، ولا يدخل عليك فيها إلا من أحببت ، وعليك الزكاة والخمس ، وإن أبيت ذلك فالجزية ، وإن أبيت ذلك قاتلناك حتى يحكم الله بيننا وبينك .
قال له رستم : ما كنت أظن أن أعيش حتى أسمع هذا منكم معشر العرب ، لا أمسي غدا حتى أفرغ منكم وأقتلكم كلكم ، ثم أمر بالمعبر أن يسكر ، فبات ليلته يسكر بالزرع والقصب والتراب حتى أصبح وقد تركه جسرا ، وعبأ الجيش ، فجعل سعد بن أبي وقاص على جماعة الناس ، وجعل على الميمنة خالد بن عرفطة [ ص: 209 ] وعلى الميسرة جرير بن عبد الله البجلي قيس بن مكشوح المرادي ، وزحف إليهم رستم ، وزحف إليه المسلمون ، وكان سعد في الحصن معه أبو محجن الثقفي محبوس ، حبسه سعد في شرب الخمر ، فاقتتل المسلمون قتالا شديدا والخيول تجول ، وكان مع سعد أم ولده فقال لها أبو محجن ، وسعد في رأس الحصن ينظر إلى الجيش كيف يقاتلون : أطلقيني ولك عهد الله وميثاقه ، لئن لم أقتل لأرجعن إليك حتى تجعلي الحديد في رجلي ، فأطلقته وحملته على فرس لسعد بلقاء وخلت سبيله ، فجعل أبو محجن يشد على العدو ويكر ، وسعد ينظر فوق الحصن يعرف فرسه وينكره .
وكان عمرو بن معد يكرب مع المسلمين ، فجعل يحرض على الناس القتال ويقول : يا معشر المسلمين ، كونوا أسودا ، إن الفارسي تيس ، وكان في الأعلاج رجل لا يكاد يسقط له نشابة ، فقيل لعمرو بن معد يكرب : يا أبا ثور اتق ذلك الفارسي فإنه لا تسقط له نشابة ، فقصد نحوه وجاءه الفارسي ورماه بنشابة ، فأصابت ترسه ، وحمل عليه عمرو فاعتنقه وذبحه ، فاستلبه سوارين من ذهب ومنطقة من ذهب ويلمقا من ديباج ، وحمل رستم على المسلمين فقصده هلال بن علقمة التميمي [ ص: 210 ] فرماه رستم بنشابة فأصاب قدمه فشكها إلى ركاب سرجه ، وحمل عليه هلال بن علقمة فضربه فقتله واحتز رأسه ، وولت الفرس واتبعتهم المسلمون يقتلونهم ، فلما رأى أبو محجن الهزيمة رجع إلى القصر وأدخل رجليه في قيده ، فلما نزل سعد من رأس الحصن رأى فرسه قد عرفت فعرف أنها قد ركبت ، فسأل أم ولده عن ذلك ، فأخبرته خبر أبي محجن فخلى سبيله ، ونهض سعد بالمسلمين خلفهم وانتهى الفرس إلى دير قرة ، فنزل عليهم سعد بالمسلمين ووافى في مدده من عياض بن غنم أهل الشام وهم ألف رجل ، فأسهم له سعد ولأصحابه من المسلمين مما أصابوا بالقادسية ، وكان الناس قد أجبنوا سعدا وقالوا : أجبنت عن محاربة الأعداء ، فاعتذر إلى الناس وأراهم ما به من القروح في فخذيه حتى سكت الناس .
ثم انهزم الفرس من دير قرة إلى المدائن ، وحملوا ما معهم من الذهب والفضة والحرير والديباج والسلاح وخلوا ما سوى ذلك ، فبعث سعد في طلبهم معه أصحابه ، وأردفه خالد بن عرفطة بعياض بن غنم في أصحابه ، وجعل على مقدمة الناس ، وعلى ميمنتهم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وعلى ميسرتهم جرير بن عبد الله البجلي زهرة بن حوية التميمي ، وتخلف عنهم بنفسه لما به من الوجع ، ثم أفاق سعد من وجعه وبرئ ، واتبع الناس بمن معه من المسلمين ، فأدركهم دون دجلة [ ص: 211 ] على بهرسير ، فطلبوا المخاضة فلم يهتدوا لها ، فقال علج من أهل المدائن لسعد : أنا أدلكم على مخاضة تدركونهم قبل أن يمعنوا السير ، فخرج بهم على مخاضة ، فكان أول من خاض المخاضة في رجله ، فلما جاز تبعه خيله ، ثم أحاز هاشم بن عتبة بن أبي وقاص بخيله ، ثم تتابع الناس فخاضوا حتى جاوزوا ، ويقال : إن تلك المخاضة لم تعرف إلى الساعة ، فبلغ المسلمون إلى ساباط طويل مظلم ، وخشوا أن يكون فيه كمين للعدو فأخذوا يتجابنون ، فكان أول من دخله بجيشه عياض بن غنم فلما جاز لاح للناس بسيفه فعرفوا أنه ليس فيه شيء يخافونه ، ثم أجاز خالد بن عرفطة بخيله ، ثم لحق سعد بالناس حتى انتهوا إلى جلولاء ، وبها جماعة من الفرس ، وكانت بها وقعة جلولاء ، وهزم الله هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، الفرس ، وأصاب المسلمون بها من الغنائم أكثر مما أصابوا بالقادسية .
وكتب سعد إلى يخبر بفتح الله على المسلمين ، فكتب إليه عمر بن الخطاب عمر أن قف مكانك ولا تطلب غير ذلك ، فكتب إليه سعد إنما هي سربة أدركناها والأرض بين أيدينا ، فكتب إليه عمر : أقم [ ص: 212 ] مكانك ولا تتبعهم ، وأعد للمسلمين دار هجرة ومنزل جهاد ، ولا تجعل بيني وبين المسلمين بحرا ، فنزل سعد بالأنبار فاجتووها وأصابهم بها الحمى ، فكتب إلى عمر يخبره بذلك ، فكتب إلى سعد أنه لا يصلح العرب إلا حيث يصلح البعير والشاء في منابت العشب ، فانظر فلاة إلى جنب بحر فأنزل المسلمين بها واجعلها دار هجرة ، فسار سعد حتى نزل بكويفة فلم يوافق الناس الكون بها من كثرة الذباب والحمى ، فبعث سعد فارتاد لهم موضع عثمان بن حنيف الكوفة اليوم ، فنزلها سعد بالناس وخط مسجدها ، واختط فيها للناس الخطط وكوف الكوفة ، واستعمل سعد على المدائن رجلا من كندة يقال له : . شرحبيل بن السمط