ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ،  واستخلف على المدينة  أبا رهم كلثوم بن حصين بن عبيد بن خلف الغفاري ،  وذلك لعشر مضين من رمضان ، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصام المسلمون ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من المسلمين ، ولم يعقد  [ ص: 43 ] الألوية ، ولا نشر الرايات ، فلما بلغ الكديد ،  والكديد  ما بين عسفان  وأمج ،  أفطر وأفطر المسلمون ، وقد كان عيينة بن حصن الفزاري  لحق رسول الله بالعرج ، ولحقه الأقرع بن حابس التميمي  في نفر من أصحابهما ، فقال عيينة   : يا رسول الله ، والله ما أرى آلة الحرب ولا تهيئة الإحرام ، فأين تتوجه ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حيث شاء الله ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران  ، وقد عميت الأخبار على قريش فلا يأتيهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يدرون ما هو فاعل ، خرج  أبو سفيان بن حرب ،  وحكيم بن حزام ،  وبديل بن ورقاء  يتجسسون الأخبار ، وينظرون هل يرون خبرا أو يسمعون به ، فقال  العباس بن عبد المطلب :  يا صباح قريش ، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوة قبل أن يأتوه فاستأمنوه ، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر ، فركب العباس  بغلة رسول الله صلى الله  [ ص: 44 ] عليه وسلم البيضاء ، ومضى عليها حتى أتى الأراك ، وقال : هل أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن ، أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه ، ويستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة ، فبينما هو يسير إذ سمع كلام أبي سفيان ،  وهو يقول : والله ما رأيت كالليلة نيرانا قط وعسكرا ، فقال بديل بن ورقاء :  هذه والله نيران خزاعة ،  فقال أبو سفيان :  خزاعة والله ألأم وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها ، فلما عرف العباس  صوتهم قال : يا أبا حنظلة ، فعرف أبو سفيان  صوته ، فقال : أبو الفضل  قال : نعم . قال : ما لك ؟ قال : فداك أبي وأمي ، ويحك يا أبا سفيان ، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم  [ ص: 45 ] قال : واصباح قريش . قال : فما الحيلة فداك أبي وأمي ؟ قال العباس :  أما والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك ، فاركب عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فركب أبو سفيان  خلف العباس ،  ورجع صاحباه إلى مكة  ، فكلما مر العباس  بنار من نيران المسلمين قالوا : من هذا ؟ وإذا رأوه قالوا : بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والعباس عليها عمه ، فلما مر بنار  عمر بن الخطاب  قال : من هذا ، وقام إليه ، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال : أبو سفيان عدو الله ، الحمد لله الذي أمكن منك من غير عقد ولا عهد ، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وركض العباس بالبغلة فسبقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاقتحم العباس على باب القبة ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل عليه عمر بن الخطاب ، فقال : يا رسول الله ، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد ، فدعني أضرب عنقه . فقال العباس : يا رسول الله ، إني قد أجرته ، ثم جلس العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكثر  [ ص: 46 ] عمر في شأن أبي سفيان ، فقال العباس : مهلا يا عمر ، أما والله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت هذا ، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف ، فقال عمر : مهلا يا عباس ، فوالله لإسلامك يوم أسلمت أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم ، وما بي إلا أني عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذهب به يا عباس إلى رحلك ، إذا أصبحت فأتني به ، فذهب به العباس إلى رحله فبات عنده ، فلما أصبح غدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ قال : بأبي أنت وأمي ما أحلمك ، وأكرمك ، وأوصلك ، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئا . قال : ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ قال : بأبي أنت وأمي ما أحلمك ، وأكرمك ، وأوصلك ، أما هذه فإن في النفس منها شيئا حتى الآن ، فقال العباس : ويحك أسلم قبل أن يضرب عنقك ، فتشهد أبو سفيان شهادة وأسلم ، فقال العباس : يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل  [ ص: 47 ] يحب الفخر ، فاجعل له شيئا . قال : نعم ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، فلما أراد أبو سفيان  أن ينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عباس ، احبسه احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها ، فخرج به العباس  فحبسه حيث أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومرت القبائل على راياتها ، كلما مرت قبيلة قال أبو سفيان :  من هؤلاء يا عباس ؟ فيقول العباس   : سليم ،  فيقول أبو سفيان : ما لي ولسليم ،  ثم مرت به القبيلة ، فقال : من هؤلاء ؟ فقال العباس : مزينة   . قال : ما لي ولمزينة  ؟ حتى مرت القبائل ، لا تمر به قبيلة إلا سأله عنها ، فإذا أخبره قال : ما لي ولبني فلان ، حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخضراء كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها المهاجرون والأنصار ، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد . قال : سبحان الله يا عباس ، من هؤلاء ؟ قال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار . قال : ولا حد بها ، ولا قبل ، ولا طاقة يا أبا الفضل ، لقد أصبح ملك ابن أخيك  [ ص: 48 ] الغداة عظيما ، فقال العباس   : يا أبا سفيان ، إنه لنبوة . قال : فنعم إذا . قال العباس : أرحلك إلى قومك ، فخرج أبو سفيان  حتى إذا دخل مكة  صرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش ، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان  فهو آمن ، فقامت إليه هند بنت عتبة ،  فأخذت بشاربه وقالت : اقتلوا الحميت الدسم الأحمش ، فقال أبو سفيان : لا يغرنكم هذه من أنفسكم ، فإنه قد جاءكم بما لا قبل لكم به ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن . قالوا : قبحك الله ، وما تغني دارك ؟ قال : ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد   . 
				
						
						
