ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا طوى  فرق جنوده فبعث عليا  من ثنية المدنيين ،  وبعث الزبير  من الثنية التي تطلع على الحجون   [ ص: 49 ] وبعث  خالد بن الوليد  من الليط ،  وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم طريق أذاخر ، أمرهم أن لا يقاتلوا أحدا إلا من قاتلهم ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن  صفوان بن أمية  ، وعكرمة بن أبي جهل ،  وعبد الله بن زمعة ،  وسهيل بن عمرو  قد جمعوا جماعة من القريش ، والأحابيش بالخندمة ليقاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقيهم  خالد بن الوليد  بمن معه من المسلمين ناوشوهم فقتل منهم  خالد بن الوليد  ثلاثة  [ ص: 50 ] وعشرين رجلا وهو معهم ، وقتل من المشركين كرز بن جابر الفهري  ، فمن هاهنا اختلف الناس في فتح مكة  عنوة كان أم صلحا   . 
فلما بلغ أبا قحافة  قدوم النبي صلى الله عليه وسلم مكة  قال لابنة له من أصغر ولده : أي بنيتي ، اظهري بي على ظهر قبيس ،  وكان نظره قد كف  [ ص: 51 ] إذ ذلك ، فقال : أي بنية ، ما ترين ؟ قالت : أرى سوادا مجتمعا . قال : تلك الخيل ، ثم قالت : والله قد انتشر السواد ، فقال : والله لقد دفعت الخيل سرعى إلى بيتي ، فانحبطت به ، وتلقته الخيل قبل أن يصل إلى بيته ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذاخر مكة  على رأسه  [ ص: 52 ] مغفر من حديد ، عليه عمامة سوداء ، ولم يلق أحد من المسلمين قتالا إلا ما كان من  خالد بن الوليد ،  وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ستة أنفس من المشركين قبل قدومهم إلى مكة ،  وقال : أي موضع رأيتم هؤلاء فاقتلوهم :  عبد الله بن سعد بن أبي سرح ،  وعبد الله بن خطل  رجل من بني تميم بن غالب ،  والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي ،  ومقيس بن صبابة الليثي  ، وسارة  مولاة كانت لبعض بني عبد المطلب ،  فأما  عبد الله بن سعد بن أبي سرح  ففر إلى  عثمان بن عفان   [ ص: 53 ] وكان أخاه من الرضاعة ، فغيبه عثمان  حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمنه ، وأما الحويرث بن نقيذ  فقتله  علي بن أبي طالب ،  وأما ابن خطل  فتعلق بأستار الكعبة  يلوذ بها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اقتلوه ، فقتله سعيد بن الحريث المخزومي ،  وأبو برزة  تحت الأستار ، اشتركا في دمه ، وأما مقيس  فقتله نميلة بن عبد الله ،  ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يقتل قرشي صبرا بعد اليوم ، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم الأبطح ، وضرب لنفسه فيه قبة ، وجاءته  أم هانئ بنت أبي طالب  فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل في جفنة فيها أثر العجين ، وفاطمة  ابنته تستر بثوب ، فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح  [ ص: 54 ] به ، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى ، ثم انصرف إليها ، فقال : مرحبا وأهلا  بأم هانئ ،  ما جاء بك . قالت : رجلان من أصهاري من بني مخزوم ،  وقد أجرتهما ، وأراد علي قتلهما ، وكانت  أم هانئ  تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي ،  فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أجرنا من أجرت يا  أم هانئ ،  ثم إن عمير بن وهب  قال : يا رسول الله ، إن  صفوان بن أمية  سيد قومه ، وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر فآمنه . قال : هو آمن . قال : يا رسول الله ، أعطني شيئا يعرف به أمانك ، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل بها مكة ، فخرج عمير بها حتى أدرك  صفوان بن أمية  بجدة  وهو يريد أن يركب البحر ، فقال : يا صفوان ، فداك أبي وأمي ، أذكرك الله في نفسك أن تهلكها ، فهذا أمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم جئتك به . قال : ويلك اغرب عني . قال : أي صفوان ، فداك أبي وأمي ، أوصل الناس ، وأبر الناس ، وأحلم الناس ، وخير الناس ابن عمتك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عزه  [ ص: 55 ] عزك ، وشرفه شرفك ، وملكه ملكك . قال صفوان   : ويلك إني أخافه على نفسي ، فأعطاه العمامة ، وخرج به معه ، فلما وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، هذا زعم أنك قد آمنتني . قال : صدق . قال : فاجعلني بالخيار شهرين . قال : أنت بالخيار أربعة أشهر   . 
ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطاف بالبيت  سبعا على بعيره يستلم الركن  بمحجنه ، ثم طاف بين الصفا  والمروة  ، ثم دعا عثمان بن طلحة الحجبي  ، فأخذ مفتاح الكعبة ،  وفتحه ثم دخله ، وصلى فيه ركعتين بين الأسطوانتين بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع ، ثم خرج فوقف على بابها وهو يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ، ألا وقتيل الخطأ مثل العمد بالسوط والعصا ، فيه الدية مغلظة ، مائة ناقة ، منها أربعون في بطونها أولادها ، يا معشر قريش ، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية  [ ص: 56 ] وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم ، وآدم من تراب ، ثم تلا هذه الآية : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم   . الآية ، ثم قال : يا أهل مكة ،  ما ترون أني فاعل بكم ؟ قالوا : خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم ، ثم قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ،  فقام إليه  علي بن أبي طالب  ومفتاح الكعبة  في يده ، فقال : يا رسول الله ، اجعل الحجابة مع السقاية ، فلتكن إلينا جميعا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين عثمان بن طلحة الحجبي ،  فدعاه  [ ص: 57 ]  [ ص: 58 ] فقال : هل لك مفتاحك ؟ فدفعه إليه  . 
فلما كان الغد من فتح مكة عدت خزاعة  على رجل من هذيل  فقتلوه وهو مشرك ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا ، فقال :  [ ص: 59 ] أيها الناس ، إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام إلى يوم القيامة ، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ، ثم قال : إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلك عليها رسوله ، وإنها لم تحل لأحد قبلي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، وإنها لا تحل لأحد بعدي ، لا ينفر صيدها ، ولا يختلى شوكها ، ولا يحل ساقطتها إلا لمنشد ، فقال العباس : إلا الإذخر ، فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلا الإذخر  ، وكانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام  تحت  عكرمة بن أبي جهل ،  وفاختة بنت الوليد تحت صفوان  [ ص: 60 ] بن أمية ،  فلما أسلمتا قالت أم حكيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسألته أن يستأمن عكرمة فآمنه ، وقد كان خرج إلى اليمن  فلحقته باليمن  حتى جاءت به ، وأسلم عكرمة وصفوان ، فأقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهما على النكاح الأول الذي كانا عليه . 
				
						
						
