مثل رجل في بيت مظلم لا يهتدي لما فيه وفي البيت جواهر وألوان من النعمة ناحية منه وفي الناحية الأخرى مزبلة وجرف يتردى فيها وعقارب وشوك وهو في تلك الظلمة سكران لا يفيق بجوهر ونعمة ولا لقذارة مزبلة وتردي جرف ولدغة عقرب ووخزة شوكة من سكره فأعطي سراجا فأفاق من سكره فأضاءت له جدران البيت من ضوء ذلك السراج فمن قام خلفه فإنما يعلم بحاله وهيئته ونعته مما يتراءى له من الظل على ذلك الجدار المضيء .الذي هو أمامه فإذا كان ذا جثة عرف ذلك بما وقع من الظل على ذلك الجدار وعرف صورته بما وقع له النعت بذلك الظل على الجدار وإن أشار بأصابعه من خلفه وقع ظل إشارته على [ ص: 135 ] الجدار فعلم عدد الأصابع وما ينقص منها وما يزيد فصارت له رؤية ذلك الظل كأنك التفت إليه فرأيته بعينك فإذا أثرت في ذلك البيت من دقاق التراب حتى يثور غباره فيمتلئ البيت أو أحرقت تبنا حتى ارتفع وهاج دخانه فامتلأ البيت حجب ذلك الغبار والدخان عينيك عن رؤية ما كنت تراه على الجدار أمامك وغاب ذلك الظل الذي كنت تراه في ذلك الغبار والدخان بغلبتهما عليه مثل من أعطي نور الهداية واستنار قلبه ثم أضاء صدره من نور القلب
فكذا الذي أضاء صدره من نور قلبه كلما ذكر في شيء من أمور الآخرة وشأن القيامة والدارين تصورت صورة تلك الأشياء لعيني فؤاده لأن ذكر تلك الأشياء إذا تصورت صارت الصور ظلا في الصدر قبالة عيني الفؤاد لأن الضوء من نور الله في صدره فإذا جاءت صور الأشياء وقع للصور ظل في ذلك الطور لأنه عليه النور ولكن حجبت صور الأشياء عيني الفؤاد عن رؤية النور بمقدار ما تصور
ألا ترى أنه إذا انتقل من فكر المخلوقين إلى فكرة جلال الله وعظمته ازداد الضوء ولم تقع لتلك الفكرة صورة لأن ضوء هذه الفكرة زيادة في ذلك الضوء لأنه منه فكر ومنه 63 حدث الضوء ثم عاد إلى ما حدث منه ولم يكن له ظل
[ ص: 136 ] وإذا فكر في أمر الجنة والنار والقيامة وكل شيء مخلوق صارت تلك الصور التي تصورت بالفكر حجبا لعيني الفؤاد عن ذلك النور بمقدار الصور فلذلك سميناه ظلا فإذا عاين ذلك الظل على تلك الصور صار كأنه يشاهد بعيني فؤاده ما يعاين غدا بعيني رأسه في الآخرة وإذا لحظ إلى عظمة الله وجلاله أشرق الصدر وصار ذا شعاع كله فهو في ذلك الوقت كأنه يشاهد بعيني فؤاده ما يشاهد من الوقوف بين يديه والنظر إلى جلاله وإذا خلا من النفس وشهواتها ثار دخانها إلى الصدر فامتلأ هذا .الصدر دخانا وغبارا الدخان لحريق الشهوات والغبار للتجبر الذي في النفس من الكبر فغاب ذلك الظل بتلك الصور التي صورت له أمور الآخرة لأنه اختلط الضوء بالغبار والدخان وافتقدت عينا الفؤاد تلك الصور
فإذا ذهب يتفكر لم يقدر أن يفكر لأن بصره لا ينفذ في ذلك الغبار والدخان إلى صور تلك الأشياء وقد ذهبت الصور وتصير تلك الفكر الآن حولها فهو يحدث نفسه ويحسب أنه فكر وإنما الفكرة توهم والتوهم في الشيء المضيء لصور الأشياء لك وإذا دام ذلك فهو فكرة ويقال للتوهم بالأعجمية [ ص: 137 ] انديشة وللفكرة اسكالسن فالتوهم أصل والفكرة فرع ممدود فبالتوهم يتصور ويتفرع ما تصور ويمتد باستقبال القلب ذلك حتى يمتد ويثمر فتلك فكرة وإنما صارت عامة أعمال العامة فاسدة لهذا الذي وصفنا لأن الأعمال تصدر عن عيني الفؤاد وأن تدبير القلب مع العقل هناك يتراءى لعيني الفؤاد صور الأمور ويزين العقل فيها ما حسن لعيني الفؤاد حتى يدبر الفؤاد ويمضيه
تسمية القلب قلبا
والقلب والفؤاد هو بضعة في بضعة فما بطن فالنور فيه فهو القلب سمي قلبا لأنه بين إصبعين من أصابع الرحمن الخالق وإذا أراد الله أن يهديه بسطه فاستقام وإذا أراد أن يضله نكسه فنور القلب يتأدى إلى بصر الفؤاد فيستنير ويضيء منه الصدر فإن شاء الرحمن قلبه كيف شاء على ما مضى من الصدر فالفؤاد هي البضعة الظاهرة التي في جوفها هذه وعلى الفؤاد عينان فسمي كله قلبا لاتصالهما ولأن أحدهما في جوف الآخر كاللؤلؤة في الزجاجة وهو قول الله تعالى ما كذب الفؤاد ما رأى
[ ص: 138 ] وقال الله تعالى في التقليب ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة
فقلب الكافر منكوس وبصر فؤاده من أسفل وقلب المؤمن مبسوط منتصب ووجهه إلى الله تعالى وذلك قول الله تعالى ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور
ولما روي عن رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة بن الصامت (قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن وإذا أراد الله أن يهديه بسطه فاستقام وإذا أراد الله أن يضله نكسه
[ ص: 139 ] فنور القلب يتأدى إلى بصر الفؤاد فيستنير ويضيء منه الصدر وإذا غشى الصدر والفؤاد دخان الشهوات صار كبيت فيه سراج قد غاب ضوءه في ذلك الدخان وأيضا صار دخانا لأن الشهوات لها حريق جاء من الشهوات المحفوفة بباب النار وإنما خلقت من النار وبباب النار وضعت وفي جوف كل آدمي منها ريح تلك النار ولها اهتدت في العروق إذا هاجت حتى تأخذ جميع الجوارح لأن العروق قد التفت على الجسد كله فلذلك إذا هاجت شهوة شيء منك أخذت في تلك السرعة من القرن إلى القدم لأنها هاجت في العروق في سرعة تلك الريح الجامحة فاشتملت على الجسد كله
وقول النبي صلى الله عليه وسلم اليمن ألين قلوبا وأرق أفئدة فإنما وصف القلب باللين لأن القلب إنما يلين بالرحمة لأنه بالرحمة ترطب الأشياء فكلما كان القلب أوفر حظا من الرحمة كان ألين ثم يخاف عليه من اللين [ ص: 140 ] العجز عن أمر الله لأن اللبن يؤدي إلى كسل النفس فإذا وفر الله تعالى عليه الرحمة فلينه ثم فتح عليه من نور العظمة انكشف ذلك النور من رطوبة الرحمة فاستدر الرحمة وعلاه نور الجلال والهيبة فصلب القلب فذاك محبوب الله تعالى في قلوب العباد أن يكون رحيما صلبا ففي وقت يستعمل الرحمة وفي وقت يستعمل الصلابة (أتاكم أهل
ولذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (ما رزق عبد شيئا أفضل من إيمان صلب رواه أبي عن صالح بن محمد عن عن النضر بن شميل عوف عن أبي السليل
ألا ترى أن قوما رقت قلوبهم عند إقامة الحدود فنزل قول الله تعالى ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين