والمقصود في هذا المقام بل لا يعرف أن أحدا أوقع الثلاث جملة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنها وقعت به. وما روي في ذلك من الأحاديث فهي ضعيفة بل موضوعة كذب عند أهل العلم بالحديث، بل قد نقل نقيض ذلك. أن القرآن ليس فيه ما يدل على وقوع الثلاث جملة. وأما السنة فليس فيها أيضا شيء من ذلك،
وحديث لما طلقها زوجها ثلاثا إنما كانت الثالثة [ ص: 326 ] آخر ثلاث تطليقات، كما جاء ذلك مفسرا في الصحيح . وحديث المتلاعنين طلقها ثلاثا بعد اللعان، واللعان حرمها عليه أشد من تحريم الطلاق، فكان وجود الطلاق كعدمه. فاطمة بنت قيس
وإذا قيل: فلماذا لم ينهه عن التكلم بالثلاث إن كانت لا توجب طلاقا في هذه الحال؟
قيل: كما أنه لم ينهه عن أصل التطليق في هذه الحال مع أنه عندهم لا يفيد ولا يقع بها طلاق، وذلك لأن النهي إنما كان لمفسدة الوقوع، فلما لم يكن هنا محل يقع به الطلاق لم تكن هنا مفسدة، كما لو طلق أخته التي تزوجها، فإذا تزوج من تحرم عليه على التأبيد وطلقها كان هذا توكيدا للتحريم، فكذلك طلاق الملاعنة توكيد لمقصود الشارع، فإنه بين أن مقصوده تحريمها عليه، والشارع قصد ذلك أيضا. بخلاف من قصد الشارع أن لا يحرمها عليه بالثلاث، بل نهاه عن إيقاع الثلاث جملة بها، ولهذا غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - على من أوقع الثلاث في غير الملاعنة، دون من أوقعه في الملاعنة.
وأما حديث ركانة بن عبد يزيد فقد روي أنه طلقها ثلاثا فردها عليه بعد الثلاث، وروي أنه طلقها البتة وأنه حلفه ما أراد إلا واحدة، فقال: ما أردت إلا واحدة، فردها. وقد روى أهل السنن وغيره هذه وهذه، ورجحوا الثانية لأنها من رواية أهل بيته، لكن أبو داود أحمد وأبو عبيد وغيرهم من العلماء ضعفوا حديث وابن حزم ركانة، وذلك أن رواته قوم لم يعرفوا بحمل العلم، ولا يعرف من عدلهم [ ص: 327 ] وضبطهم ما يوجب أن تثبت بمثل نقلهم سنة للمسلمين توجب حكما عاما للأمة.