ولما فرغ الناظم من أحكام الدواب ومن وسمها ، وما عطف عليه ، وما يباح قتله ، وما يحرم ، وما يكره ، وما يستحب وذكر حكم الإكراه ، وأنه ما يحل للمضطر يحل للمكره ، وأن المكره أقواله وأفعاله الصادرة منه لداعي الإكراه لغو إلا ما استثنى أعقب ذلك ببيان طرف من آداب الأكل والشرب فقال :
مطلب : في آداب الأكل :
ويكره نفخ في الغدا وتنفس وجولان أيد في طعام موحد ( ويكره ) تنزيها ، وقد مر غير مرة أن المكروه يثاب على تركه ولا يعاقب على فعله ( نفخ ) مصدر نفخ . قال في القاموس نفخ بفيه أخرج منه الريح ( في الغدا ) متعلق ب نفخ .
أصل الغدا طعام الغدوة وجمعه أغدية [ ص: 87 ] وتغدى أكل أول النهار وغديته تغدية فهو غديان ، وهي غديا ، والغدوة بالضم البكرة ، أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس كالغداة ، والغدية .
وفي اصطلاح الفقهاء الغداء ما كان قبل الزوال ، والعشاء بعده إلى نصف الليل .
فلو لم يحنث ، والمراد به في كلام حلف لا يتغدى فأكل بعد الزوال ، أو لا يتعشى فأكل بعد نصف الليل ، أو لا يتسحر فأكل قبل نصف الليل ولا نية الناظم مطلق الطعام والشراب هذا إن كان بالغين المعجمة والدال المهملة كما هو مكتوب في بعض النسخ ، وصوابه بالغين المكسورة والذال المعجمتين .
قال في القاموس : الغذاء ككساء ما به نماء الجسم وقوامه وغذاه غذوا وغذاه واغتذى وتغذى ، فإن لفظه بالذال المعجمة يدل على الأكل والشرب كل وقت بالمطابقة بخلاف الغداء بالدال المهملة ، فإنما يدل على الأكل قبل الزوال خاصة ويحمل عليه بقية الطعام والشراب في غير ذلك الوقت ، وما دل بالمطابقة أولى مما لا دلالة على شيء إلا بطريق الحمل .
فظهر أن المعجمة هي الصواب والله أعلم ( و ) يكره أيضا في الغدا يعني في المأكول ، والمشروب ( تنفس ) أي أن يتنفس في الإناء الذي فيه الغذاء قبل إبانته عن فيه بأن يخرج نفس الشارب ونحوه في الإناء . والنفس بالتحريك واحد الأنفاس ، وتنفس الصبح تبلج .
مطلب : فيما ورد من النهي عن . النفخ في الإناء والتنفس فيه
واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم { } . روى نهى عن النفخ في الإناء والتنفس فيه الترمذي وصححه عن رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم { ابن عباس } . نهى أن يتنفس في الإناء ، أو ينفخ فيه
وروى الترمذي أيضا ، وقال حسن صحيح عن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم { أبي سعيد الخدري } . نهى عن النفخ في الشراب فقال رجل : القذاة أراها في الإناء فقال أهرقها قال : فإني لا أروى من نفس واحد ، قال فأبن القدح إذن عن فيك
وأخرج أبو داود في صحيحه عن وابن حبان أيضا رضي الله عنه قال : { أبي سعيد الخدري } . نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من ثلمة القدح وأن ينفخ في الشراب
وروى البخاري ومسلم والترمذي { والنسائي } من حديث النهي عن التنفس في الإناء . أبي قتادة
[ ص: 88 ] وروى عن ابن حبان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم { ابن عباس } . وفي الصحيحين عن نهى أن يشرب الرجل من في السقاء وأن يتنفس في الإناء رضي الله عنه قال : { أبي سعيد الخدري } يعني أن تكسر أفواهها فيشرب منها نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية
. وفي حديث رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أبي هريرة } ، رواه نهى أن يشرب من في السقاء ، فأنبئت أن رجلا شرب من في السقاء فخرجت حية مختصرا دون قوله : فأنبئت إلى آخره ورواه البخاري بتمامه ، وقال : صحيح على شرط الحاكم . البخاري
وفي حديث رضي الله عنهما { ابن عباس } رواه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية ، وأن رجلا بعد ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قام من الليل إلى سقاء فاختنثه فخرجت عليه منه حية من طريق ابن ماجه زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام ، وبقية إسناده ثقات ، وقوله : عن اختناث السقاء يقال خنث السقاء وأخنثه إذا كسر فمه إلى خارج فشرب منه .
مطلب : في إبانة الشاب القدح عن فيه ثلاثا .
( تنبيهات ) :
( الأول ) : روى الترمذي وحسنه عن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم { أنس بن مالك } . كان يتنفس في الإناء ثلاثا ويقول : هو أمرأ وأروى
وروي أيضا عن ثمامة عن { أنس } ، وقال : هذا صحيح ، قال أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتنفس ثلاثا الحافظ المنذري : وهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم كان يبين القدح عن فيه كل مرة ، ثم يتنفس كما جاء في حديث المتقدم لا أنه كان يتنفس في الإناء . أبي سعيد
وقال في نهايته : وفيه أنه نهى عن النفس في الإناء ، وفي حديث آخر أنه كان يتنفس في الإناء ثلاثا ، يعني في الشرب ، الحديثان صحيحان وهما باختلاف تقديرين أحدهما أن يشرب ، وهو يتنفس في الإناء من غير أن يبينه عن فيه ، وهو مكروه ، والآخر أن يشرب من الإناء بثلاثة أنفاس يفصل فيها فاه عن الإناء . ابن الأثير
[ ص: 89 ] الثاني ) : روى أبو داود { ، والبيهقي أحد فقال : اختنث فم الإداوة ، ثم شرب من فيها } فما هذا الأمر بعد النهي الصحيح والزجر عن اختناث الأسقية ؟ فظاهر صنيع أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بإداوة يوم أن خبر النهي كان بعد هذا فيكون منسوخا ، وأما البيهقي الترمذي ، فإنه رواه ، وقال : ليس إسناده بصحيح فيكون المعول عليه الزجر لا الأمر ، وهو ظاهر صنيع الحافظ المنذري والله أعلم .
مطلب : لا بأس بنفخ الطعام والشراب إذا كان حارا لحاجة .
( الثالث ) : قال الآمدي ونقله عنه ابن مفلح في الآداب الكبرى وغيره : لا بأس بنفخ الطعام إذا كان حارا ويكره أكله حارا ، وهو ظاهر الإقناع ، فإنه قال : ويكره إن لم يكن حاجة ، فقوله : إن لم يكن حاجة راجع إلى النفخ والتنفس وأكل الحار . نفخ الطعام والشراب والتنفس في إنائهما وأكله حارا
وفي المستوعب : النفخ في الطعام والشراب ، والكتاب منهي عنه ، قال الآمدي : لا يكره وصوبه في الإنصاف إن كان ثم حاجة إلى الأكل حينئذ والله أعلم . النفخ والطعام حار
( الرابع ) : مراد الناظم بالغدا ما يشمل الشراب إذ لا فرق بين المأكول ، والمشروب . قال في الآداب الكبرى : يكره نفخ الطعام والشراب ، أطلقه الأصحاب لظاهر الخبر ، وحكمة ذلك تقتضي التسوية ، وبذلك سوى الشارع بين النفخ والتنفس فيه انتهى . فيشمل نحو قهوة البن مع أنها إنما تشرب ، وفيها حرارة لكن غير مؤذية ، فإذا احتاج إلى النفخ فلا كراهة وإلا كره والله أعلم .