[ المسألة الثالثة ]  
[ مبيحات الجمع ]  
وأما المسألة الثالثة ( وهي  الأسباب المبيحة للجمع      ) ، فاتفق القائلون بجواز الجمع على أن السفر منها ، واختلفوا في الجمع في الحضر وفي شروط السفر المبيح له ، وذلك أن السفر منهم من جعله سببا مبيحا للجمع أي سفر كان وبأي صفة كان ، ومنهم من اشترط فيه ضربا من السير ، ونوعا من أنواع السفر ، فأما الذي اشترط فيه ضربا من السير فهو  مالك  في رواية  ابن القاسم  عنه ، وذلك أنه قال : لا يجمع المسافر إلا أن يجد به السير ، ومنهم من لم يشترط ذلك وهو   الشافعي  ، وهي إحدى الروايتين عن  مالك  ، ومن ذهب هذا المذهب فإنما راعى قول   ابن عمر     : "  كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عجل به السير     " الحديث .  
ومن لم يذهب هذا المذهب فإنما راعى ظاهر حديث  أنس  وغيره ، وكذلك اختلفوا كما قلنا في نوع السفر الذي يجوز فيه الجمع .  
فمنهم من قال : هو سفر القربة كالحج والغزو ، وهو ظاهر رواية  ابن القاسم     .  
ومنهم من قال : هو السفر المباح دون سفر المعصية ، وهو قول   الشافعي  وظاهر رواية المدنيين عن  مالك     .  
والسبب في اختلافهم في هذا هو السبب في اختلافهم في السفر الذي تقصر فيه الصلاة ، وإن كان هنالك التعميم ; لأن القصر نقل قولا وفعلا ، والجمع إنما نقل فعلا فقط ، فمن اقتصر به على نوع السفر الذي جمع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجزه في غيره ، ومن فهم منه الرخصة للمسافر عداه إلى غيره من الأسفار .  
وأما  الجمع في الحضر لغير عذر   ، فإن  مالكا  وأكثر الفقهاء لا يجيزونه ، وأجاز ذلك جماعة من أهل      [ ص: 147 ] الظاهر وأشهب من أصحاب  مالك     .  
وسبب اختلافهم : اختلافهم في مفهوم حديث   ابن عباس  ، فمنهم من تأوله على أنه كان في مطر كما قال  مالك     . ومنهم من أخذ بعمومه مطلقا . وقد خرج  مسلم  زيادة في حديثه ، وهو قوله "  في غير خوف ولا سفر ولا مطر     " وبهذا تمسك أهل الظاهر .  
وأما  الجمع في الحضر لعذر المطر   ، فأجازه   الشافعي  ليلا كان أو نهارا ومنعه  مالك  في النهار ، وأجازه في الليل ، وأجازه أيضا في الطين دون المطر في الليل ، وقد عذل   الشافعي  مالكا  في تفريقه من صلاة النهار في ذلك وصلاة الليل لأنه روى الحديث وتأوله : ( أعني : خصص عمومه من جهة القياس ) وذلك أنه قال في قول   ابن عباس     : "  جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر     " أرى ذلك كان في مطر قال : فلم يأخذ بعموم الحديث ولا بتأويله : ( أعني تخصيصه ) بل رد بعضه وتأول بعضه ، وذلك شيء لا يجوز بإجماع ، وذلك أنه لم يأخذ بقوله فيه : "  جمع بين الظهر والعصر     " وأخذ بقوله : "  والمغرب والعشاء     " وتأوله وأحسب أن  مالكا     - رحمه الله - إنما رد بعض هذا الحديث ; لأنه عارضه العمل ، فأخذ منه بالبعض الذي لم يعارضه العمل ، وهو الجمع في الحضر بين المغرب والعشاء على ما روي  أن   ابن عمر  كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء ، جمع معهم  ، لكن النظر في هذا الأصل الذي هو العمل كيف يكون دليلا شرعيا فيه نظر ، فإن متقدمي شيوخ المالكية كانوا يقولون إنه من باب الإجماع ، وذلك لا وجه له ، فإن إجماع البعض لا يحتج به ، وكان متأخروهم يقولون إنه من باب نقل التواتر ، ويحتجون في ذلك بالصاع وغيره مما نقله أهل  المدينة   خلفا عن سلف ، والعمل إنما هو فعل ، والفعل لا يفيد التواتر إلا أن يقترن بالقول فإن التواتر طريقة الخبر لا العمل ، وبأن جعل الأفعال تفيد التواتر عسير بل لعله ممنوع ، والأشبه عندي أن يكون من باب عموم البلوى الذي يذهب إليه  أبو حنيفة  ، وذلك أنه لا يجوز أن يكون أمثال هذه السنن مع تكررها ، وتكرر وقوع أسبابها غير منسوخة ، ويذهب العمل بها على أهل  المدينة   الذين تلقوا العمل بالسنن خلفا عن سلف ، وهو أقوى من عموم البلوى الذي يذهب إليه  أبو حنيفة     ; لأن أهل  المدينة   أحرى أن لا يذهب عليهم ذلك من غيرهم من الناس الذين يعتبرهم  أبو حنيفة  في طريق النقل ، وبالجملة العمل لا يشك أنه قرينة إذا اقترنت بالشيء المنقول إن وافقته أفادت به غلبة ظن ، وإن خالفته أفادت به ضعف ظن ، فأما هل تبلغ هذه القرينة مبلغا ترد بها أخبار الآحاد الثابتة ففيه نظر ، وعسى أنها تبلغ في بعض ولا تبلغ في بعض لتفاضل الأشياء في شدة عموم البلوى بها ، وذلك أنه كلما كانت السنة الحاجة إليها أمس وهي كثيرة التكرار على المكلفين كان نقلها من طريق الآحاد من غير أن ينتشر قولا أو عملا فيه ضعف ، وذلك أنه يوجب ذلك أحد أمرين : إما أنها منسوخة ، وإما أن النقل فيه اختلال ، وقد بين ذلك المتكلمون  كأبي المعالي  وغيره . وأما  الجمع في الحضر للمريض   فإن  مالكا  أباحه له إذا خاف أن يغمى عليه أو كان به بطن ومنع ذلك   الشافعي     .  
والسبب في اختلافهم : هو اختلافهم في تعدي علة الجمع في السفر : ( أعني : المشقة ) ، فمن طرد العلة      [ ص: 148 ] رأى أن هذا من باب الأولى والأحرى ، وذلك أن المشقة على المريض في إفراد الصلوات أشد منها على المسافر ، ومن لم يعد هذه العلة وجعلها كما يقولون قاصرة : ( أي : خاصة بذلك الحكم دون غيره ) لم يجز ذلك .  
				
						
						
