بسم الله الرحمن الرحيم  
وصلى الله على سيدنا  محمد   وآله وصحبه وسلم تسليما  
كتاب الوديعة  
وجل المسائل المشهورة بين فقهاء الأمصار في هذا الكتاب هي في أحكام الوديعة :  
 [ ص: 648 ] فمنها : أنهم اتفقوا على أنها  أمانة لا مضمونة   ، إلا ما حكي عن   عمر بن الخطاب     . قال المالكيون : والدليل على أنها أمانة أن الله أمر برد الأمانات ولم يأمر بالإشهاد ، فوجب أن يصدق المستودع في دعواه رد الوديعة مع يمينه إن كذبه المودع ، قالوا : إلا أن يدفعها إليه ببينة ، فإنه لا يكون القول قوله ، قالوا : لأنه إذا دفعها إليه ببينة فكأنه ائتمنه على حفظها ولم يأتمنه على ردها ، فيصدق في تلفها ولا يصدق على ردها ، هذا هو المشهور عن  مالك  وأصحابه .  
وقد قيل عن  ابن القاسم     : إن القول قوله وإن دفعها إليه ببينة ، وبه قال   الشافعي  وأبو حنيفة  ، وهو القياس ; لأنه فرق بين التلف ودعوى الرد ، ويبعد أن تنتقض الأمانة وهذا فيمن دفع الأمانة إلى اليد التي دفعتها إليه .  
وأما من دفعها إلى غير اليد التي دفعتها إليه ، فعليه ما على ولي اليتيم من الإشهاد عند  مالك  وإلا ضمن ، يريد قول الله - عز وجل - : (  فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم      ) فإن أنكر القابض القبض فلا يصدق المستودع في الدفع عند  مالك  وأصحابه إلا ببينة .  
وقد قيل إنه يتخرج من المذهب أنه يصدق في ذلك ، وسواء عند  مالك  أمر صاحب الوديعة بدفعها إلى الذي دفعها أو لم يأمر .  
وقال  أبو حنيفة     : إن كان ادعى دفعها إلى من أمره بدفعها فالقول قول المستودع مع يمينه ، فإن أقر المدفوع إليه بالوديعة ، ( أعني : إذا كان غير المودع ) وادعى التلف فلا يخلو أن يكون المستودع دفعها إلى أمانة ( وهو وكيل المستودع ) أو إلى ذمة .  
فإن كان القابض أمينا فاختلف في ذلك قول  ابن القاسم  ، فقال مرة : يبرأ الدافع بتصديق القابض ، وتكون المصيبة من الآمر الوكيل بالقبض ، ومرة قال : لا يبرأ الدافع إلا بإقامة البينة على الدفع أو يأتي القابض بالمال .  
وأما إن دفع إلى ذمة ، مثل أن  يقول رجل للذي عنده الوديعة ادفعها إلي سلفا أو تسلفا في سلعة   أو ما أشبه ذلك ، فإن كانت الذمة قائمة برئ الدافع في المذهب من غير خلاف ، وإن كانت الذمة خربة ، فقولان .  
والسبب في هذا اختلافهم كله أن الأمانة تقوي دعوى المدعي حتى يكون القول قوله مع يمينه .  
فمن شبه أمانة الذي أمره المودع أن يدفعها إليه ( أعني : الوكيل ) بأمانة المودع عنده ، قال : يكون القول قوله في دعواه التلف ، كدعوى المستودع عنده .  
ومن رأى أن تلك الأمانة أضعف ، قال : لا يبرأ الدافع بتصديق القابض مع دعوى التلف .  
ومن رأى المأمور بمنزلة الآمر قال : القول قول الدافع للمأمور ، كما كان القول قوله مع الآمر ، وهو مذهب  أبي حنيفة     .  
ومن رأى أنه أضعف منه ، قال : الدافع ضامن إلا أن يحضر القابض المال .  
وإذا  أودعها بشرط الضمان   ، فالجمهور على أنه لا يضمن ، وقال الغير : يضمن .  
 [ ص: 649 ] وبالجملة فالفقهاء يرون بأجمعهم أنه لا ضمان على صاحب الوديعة إلا أن يتعدى ، ويختلفون في أشياء هل هي تعد أم ليس بتعد ؟  
فمن مسائلهم المشهورة في هذا الباب إذا  أنفق الوديعة ، ثم رد مثلها ، أو أخرجها لنفقته ثم ردها   ، فقال  مالك     : يسقط عنه الضمان بحالة مثل إذا ردها ، وقال  أبو حنيفة     : إن ردها بعينها قبل أن ينفقها لم يضمن ، وإن رد مثلها ضمن ، وقال  عبد الملك   والشافعي     : يضمن في الوجهين جميعا .  
فمن غلظ الأمر ضمنه إياها بتحريكها ونية استنفاقها ، ومن رخص لم يضمنها إذا أعاد مثلها .  
ومنها : اختلافهم في  السفر بها   ، فقال  مالك     : ليس له أن يسافر بها إلا أن تعطى له في سفر ، وقال  أبو حنيفة     : له أن يسافر بها إذا كان الطريق آمنا ولم ينهه صاحب الوديعة .  
ومنها أنه ليس للمودع عنده أن  يودع الوديعة غيره من غير عذر   ، فإن فعل ضمن ، وقال  أبو حنيفة     : إن أودعها عند من تلزمه نفقته لم يضمن ; لأنه شبهه بأهل بيته . وعند  مالك  له أن يستودع ما أودع عند عياله الذين يأمنهم ، وهم تحت غلقه من زوج أو ولد أو أمة أو من أشبههم .  
وبالجملة فعند الجميع أنه يجب عليه أن يحفظها مما جرت به عادة الناس أن تحفظ أموالهم ، فما كان بينا من ذلك أنه حفظ اتفق عليه ، وما كان غير بين أنه حفظ اختلف فيه ، مثل اختلافهم في المذهب فيمن  جعل وديعة في جيبه فذهبت   ، والأشهر أنه يضمن .  
وعند  ابن وهب  أن من  أودع وديعة في المسجد فجعلها على نعله فذهبت   أنه لا ضمان عليه .  
ويختلف في المذهب في  ضمانها بالنسيان   ، مثل أن ينساها في موضع أو أن ينسى من دفعها إليه ، أو يدعيها رجلان ، فقيل يحلفان وتقسم بينهما ، وقيل إنه يضمن لكل واحد منهما .  
وإذا  أراد السفر   فله عند  مالك  أن يودعها عند ثقة من أهل البلد ولا ضمان عليه قدر على دفعها إلى الحاكم أو لم يقدر . واختلف في ذلك أصحاب   الشافعي  ، فمنهم من يقول : إن أودعها لغير الحاكم ضمن .  
وقبول الوديعة عند  مالك  لا يجب في حال ، ومن العلماء من يرى أنه واجب إذا لم يجد المودع من يودعها عنده .  
ولا أجر للمودع عنده على حفظ الوديعة ، وما تحتاج إليه من مسكن أو نفقة فعلى ربها .  
واختلفوا من هذا الباب في فرع مشهور ، وهو فيمن  أودع مالا فتعدى فيه واتجر به فربح فيه   ، هل ذلك الربح حلال له أم لا ؟ فقال  مالك  ،  والليث  ،  وأبو يوسف  وجماعة : إذا رد المال طاب له الربح ، وإن كان غاصبا للمال فضلا عن أن يكون مستودعا عنده ، وقال  أبو حنيفة  ،  وزفر  ومحمد بن الحسن     : يؤدي الأصل ويتصدق بالربح ، وقال قوم : لرب الوديعة الأصل والربح ، وقال قوم : هو مخير بين الأصل والربح ، وقال قوم : البيع الواقع في تلك التجارة فاسد ، وهؤلاء هم الذين أوجبوا التصدق بالربح إذا مات .  
فمن اعتبر التصرف ، قال : الربح للمتصرف ، ومن اعتبر الأصل ، قال : الربح لصاحب المال . ولذلك لما  أمر  عمر     - رضي الله عنه - ابنيه  عبد الله  وعبيد الله  أن يصرفا المال الذي أسلفهما   أبو موسى الأشعري  من بيت المال ، فتجروا فيه فربحا ، قيل له : لو جعلته قراضا ، فأجاب إلى ذلك     ; لأنه قد روي أنه قد حصل للعامل جزء ولصاحب المال جزء ، وأن ذلك عدل .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					