بسم الله الرحمن الرحيم .  
كتاب  الاعتكاف   
والاعتكاف مندوب إليه بالشرع واجب بالنذر ، ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن  مالك  أنه كره الدخول فيه مخافة أن لا يوفي شرطه وهو في رمضان أكثر منه في غيره ، وبخاصة في العشر الأواخر منه ، إذ كان ذلك هو آخر اعتكافه - صلى الله عليه وسلم - .  
وهو بالجملة يشتمل على عمل مخصوص في موضع مخصوص وفي زمان مخصوص بشروط مخصوصة وتروك مخصوصة .  
فأما العمل الذي يخصه ففيه قولان : قيل : إنه الصلاة وذكر الله وقراءة القرآن لا غير ذلك من أعمال البر والقرب ، وهو مذهب  ابن القاسم     . وقيل جميع أعمال القرب والبر المختصة بالآخرة ، وهو مذهب  ابن وهب  ، فعلى هذا المذهب يشهد الجنائز ويعود المرضى ويدرس العلم ، وعلى المذهب الأول لا ، وهذا هو مذهب   الثوري  ، والأول هو مذهب   الشافعي  وأبي حنيفة     .  
 [ ص: 261 ] وسبب اختلافهم : أن ذلك شيء مسكوت عنه - أعني : أنه ليس فيه حد مشروع بالقول - . فمن فهم من الاعتكاف حبس النفس على الأفعال المختصة بالمساجد قال : لا يجوز للمعتكف إلا الصلاة والقراءة . ومن فهم منه حبس النفس على القرب الأخروية كلها أجاز له غير ذلك مما ذكرناه . وروي  عن  علي     - رضي الله عنه - أنه قال : من اعتكف لا يرفث ولا يساب ، وليشهد الجمعة والجنازة ، ويوصي أهله إذا كانت له حاجة وهو قائم ولا يجلس     . ذكره  عبد الرزاق     . وروي عن  عائشة  خلاف هذا ، وهو أن السنة للمعتكف أن لا يشهد جنازة ولا يعود مريضا . وهذا أيضا أحد ما أوجب الاختلاف في هذا المعنى .  
وأما  المواضع التي يكون فيها الاعتكاف      : فإنهم اختلفوا فيها فقال قوم : لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة : بيت الله الحرام، وبيت المقدس، ومسجد النبي - عليه الصلاة والسلام - وبه قال  حذيفة   وسعيد بن المسيب     .  
وقال آخرون : الاعتكاف عام في كل مسجد ، وبه قال   الشافعي  وأبو حنيفة   والثوري  ، وهو مشهور مذهب  مالك     .  
وقال آخرون : لا اعتكاف إلا في مسجد فيه جمعة ، وهي رواية   ابن عبد الحكم  عن  مالك     .  
وأجمع الكل على أن من شرط الاعتكاف المسجد ، إلا ما ذهب إليه  ابن لبابة  من أنه يصح في غير مسجد ، وأن مباشرة النساء إنما حرمت على المعتكف إذا اعتكف في المسجد ، وإلا ما ذهب إليه  أبو حنيفة  من أن المرأة إنما تعتكف في مسجد بيتها .  
وسبب اختلافهم في اشتراط المسجد أو ترك اشتراطه : هو الاحتمال الذي في قوله - تعالى - : (  ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد      ) بين أن يكون له دليل خطاب أو لا يكون له ؟ فمن قال له دليل خطاب قال : لا اعتكاف إلا في مسجد ، وإن من شرط الاعتكاف ترك المباشرة . ومن قال ليس له دليل خطاب قال : المفهوم منه أن الاعتكاف جائز في غير المسجد ، وأنه لا يمنع المباشرة لأن قائلا لو قال : لا تعط فلانا شيئا إذا كان داخلا في الدار ، لكان مفهوم دليل الخطاب يوجب أن تعطيه إذا كان خارج الدار ، ولكن هو قول شاذ . والجمهور على أن العكوف إنما أضيف إلى المساجد لأنها من شرطه .  
وأما سبب اختلافهم في تخصيص بعض المساجد أو تعميمها : فمعارضة العموم للقياس المخصص له . فمن رجح العموم قال : في كل مسجد على ظاهر الآية ، ومن انقدح له تخصيص بعض المساجد من ذلك العموم بقياس اشترط أن يكون مسجدا فيه جمعة ( لئلا ينقطع عمل المعتكف بالخروج إلى الجمعة ) ، أو مسجدا تشد إليه المطي مثل مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي وقع فيه اعتكافه ، ولم يقس سائر المساجد عليه إذ كانت غير مساوية له في الحرمة .  
وأما سبب اختلافهم في  اعتكاف المرأة      : فمعارضة القياس أيضا للأثر ، وذلك أنه ثبت : "  أن  حفصة  وعائشة  وزينب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الاعتكاف في المسجد ، فأذن لهن حين ضربن أخبيتهن فيه     " . فكان هذا الأثر دليلا على جواز اعتكاف المرأة في المسجد .  
وأما القياس المعارض لهذا : فهو قياس الاعتكاف على الصلاة ، وذلك أنه لما كانت صلاة المرأة في بيتها أفضل منها في المسجد على ما جاء الخبر وجب أن يكون الاعتكاف في بيتها أفضل . قالوا وإنما      [ ص: 262 ] يجوز للمرأة أن تعتكف في المسجد مع زوجها فقط على نحو ما جاء في الأثر من اعتكاف أزواجه - عليه الصلاة والسلام - معه كما تسافر معه ولا تسافر مفردة ، وكأنه نحو من الجمع بين القياس والأثر .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					