الباب التاسع
في سجود القرآن
والكلام في هذا الباب ينحصر في خمسة فصول : في حكم السجود ، وفي عدد السجدات التي لها عزائم - أعني : التي يسجد لها - ، وفي الأوقات التي يسجد لها ، وعلى من يجب السجود ، وفي صفة السجود .
[ الفصل الأول ]
[ حكم سجود التلاوة ]
فأما : فإن حكم سجود التلاوة وأصحابه قالوا : هو واجب ، وقال أبا حنيفة مالك : هو مسنون وليس بواجب . والشافعي
وسبب الخلاف : اختلافهم في مفهوم الأوامر بالسجود ، والأخبار التي معناها معنى الأوامر بالسجود ، مثل قوله تعالى : ( إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ) هل هي محمولة على الوجوب ، أو على الندب : فأبو حنيفة حملها على ظاهرها من الوجوب ، ومالك اتبعا في مفهومها الصحابة إذ كانوا هم أقعد بفهم الأوامر الشرعية ، وذلك أنه لما ثبت : أن والشافعي قرأ السجدة يوم الجمعة ، فنزل وسجد ، وسجد الناس فلما كان في الجمعة الثانية وقرأها ، وتهيأ الناس للسجود فقال : على رسلكم إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء ، قالوا : وهذا بمحضر الصحابة ، فلم ينقل عن أحد منهم خلاف ، وهم أفهم بمغزى الشرع ، وهذا إنما يحتج به من يرى قول الصحابي - إذا لم يكن له مخالف - حجة . عمر بن الخطاب
وقد احتج أصحاب في ذلك بحديث الشافعي أنه قال : زيد بن ثابت " . " كنت أقرأ القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأت سورة النجم فلم يسجد ولم نسجد
[ ص: 186 ] وكذلك أيضا يحتج لهؤلاء بما روي عنه - عليه الصلاة والسلام - : " أنه لم يسجد في المفصل " . وبما روي : " أنه سجد فيها " . لأن وجه الجمع بين ذلك يقتضي أن لا يكون السجود واجبا ، وذلك بأن يكون كل واحد منهم حدث بما رأى ، ومن قال : إنه سجد ، ومن قال إنه لم يسجد .
وأما أبو حنيفة فتمسك في ذلك بأن الأصل هو حمل الأوامر على الوجوب والأخبار التي تتنزل منزلة الأوامر .
وقد قال أبو المعالي : إن احتجاج أبي حنيفة بالأوامر الواردة بالسجود في ذلك لا معنى له ، فإن إيجاب السجود مطلقا ليس يقتضي وجوبه مقيدا وهو عند القراءة - أعني : قراءة آية السجود - قال : ولو كان الأمر كما زعم أبو حنيفة لكانت الصلاة تجب عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالصلاة ، وإذا لم يجب ذلك فليس يجب السجود عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالسجود من الأمر بالسجود .
ولأبي حنيفة أن يقول : قد أجمع المسلمون على أن الأخبار الواردة في السجود عند تلاوة القرآن هي بمعنى الأمر وذلك في أكثر المواضع ، وإذا كان ذلك كذلك فقد ورد الأمر بالسجود مقيدا بالتلاوة - أعني : عند التلاوة - ، وورد الأمر به مطلقا فوجب حمل المطلق على المقيد ، وليس الأمر في ذلك بالسجود كالأمر بالصلاة ، فإن الصلاة قيد وجوبها بقيود أخر ، وأيضا فإن النبي - عليه الصلاة والسلام - قد سجد فيها . فبين لنا بذلك معنى الأمر بالسجود الوارد فيها - أعني : أنه عند التلاوة - ، فوجب أن يحمل مقتضى الأمر في الوجوب عليه .