الجملة الثانية  
[ في معرفة ما تجب فيه من الأموال ]  
وأما  ما تجب فيه الزكاة من الأموال      : فإنهم اتفقوا منها على أشياء واختلفوا في أشياء .  
وأما ما اتفقوا عليه فصنفان من المعدن : الذهب والفضة اللتين ليستا بحلي ، وثلاثة أصناف من الحيوان : الإبل والبقر والغنم ، وصنفان من الحبوب : الحنطة والشعير ، وصنفان من الثمر : التمر والزبيب ، وفي الزيت خلاف شاذ .  
واختلفوا ؛ أما من الذهب ففي الحلي فقط ، وذلك أنه ذهب فقهاء الحجاز  مالك  والليث   والشافعي  إلى أنه لا زكاة فيه إذا أريد للزينة واللباس وقال  أبو حنيفة  وأصحابه : فيه الزكاة .  
والسبب في اختلافهم : تردد شبهه بين العروض وبين التبر والفضة اللتين المقصود منهما المعاملة في جميع الأشياء ، فمن شبهه بالعروض التي المقصود منها المنافع أولا قال : ليس فيه زكاة ، ومن شبهه بالتبر والفضة التي المقصود منها المعاملة بها أولا قال : فيه الزكاة .  
ولاختلافهم أيضا سبب آخر وهو اختلاف الآثار في ذلك ، وذلك أنه روى  جابر  عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : "  ليس في الحلي زكاة     " . وروى   عمرو بن شعيب  عن أبيه عن جده : "  أن امرأة أتت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعها ابنة لها ، وفي يد ابنتها مسك من ذهب ، فقال لها : أتؤدين زكاة هذا ؟ قالت : لا ، قال : أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار ؟ فخلعتهما وألقتهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت : هما لله ورسوله     " . والأثران ضعيفان ، وبخاصة حديث  جابر     .  
ولكون السبب الأملك لاختلافهم تردد  الحلي المتخذ للباس   بين التبر والفضة اللذين المقصود منهما أولا المعاملة لا الانتفاع ، وبين العروض المقصود منها التي بالوضع الأول خلاف المقصود من التبر والفضة - أعني : الانتفاع بها لا المعاملة ، وأعني بالمعاملة : كونها ثمنا .  
واختلف قول  مالك  في  الحلي المتخذ للكراء      : فمرة شبهه بالحلي المتخذ من اللباس ، ومرة شبهه بالتبر المتخذ للمعاملة .  
وأما ما اختلفوا فيه من الحيوان : فمنه ما اختلفوا في نوعه ، ومنه ما اختلفوا في صنفه .  
وأما ما اختلفوا في نوعه : فالخيل ، وذلك أن الجمهور على أن  لا زكاة في الخيل   ، فذهب  أبو حنيفة  إلى أنها إذا كانت سائمة، وقصد بها النسل، أن فيها الزكاة - أعني : إذا كانت ذكرانا وإناثا - .  
 [ ص: 211 ] والسبب في اختلافهم : معارضة القياس للفظ ، وما يظن من معارضة اللفظ للفظ فيها .  
أما اللفظ الذي يقتضي أن لا زكاة فيها فقوله - عليه الصلاة والسلام - : "  ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة     " .  
وأما القياس الذي عارض هذا العموم : فهو أن الخيل السائمة حيوان مقصود به النماء والنسل ، فأشبه الإبل والبقر .  
وأما اللفظ الذي يظن أنه معارض لذلك العموم فهو قوله - عليه الصلاة والسلام - وقد ذكر الخيل : "  ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها     " .  
فذهب  أبو حنيفة  إلى أن حق الله هو الزكاة ، وذلك السائمة منها . قال القاضي : وأن يكون هذا اللفظ مجملا أحرى منه أن يكون عاما ، فيحتج به في الزكاة . وخالف   أبا حنيفة  في هذه المسألة صاحباه  أبو يوسف  ومحمد  ، وصح عن  عمر     - رضي الله - عنه أنه كان يأخذ منها الصدقة ، فقيل إنه كان باختيار منهم .  
وأما ما اختلفوا في صنفه : فهي السائمة من الإبل والبقر والغنم من غير السائمة منها ، فإن قوما أوجبوا الزكاة في هذه الأصناف سائمة كانت أو غير سائمة ، وبه قال  الليث  ومالك     . وقال سائر فقهاء الأمصار : لا زكاة في غير السائمة من هذه الثلاثة أنواع .  
وسبب اختلافهم : معارضة المطلق للمقيد ، ومعارضة القياس لعموم اللفظ .  
أما المطلق : فقوله - عليه الصلاة والسلام - : "  في أربعين شاة شاة     " .  
أما المقيد : فقوله - عليه الصلاة والسلام - : "  في سائمة الغنم الزكاة     " .  
فمن غلب المطلق على المقيد قال :  الزكاة في السائمة وغير السائمة      ; ومن غلب المقيد قال : الزكاة في السائمة منها فقط .  
ويشبه أن يقال : إن من سبب الخلاف في ذلك أيضا معارضة دليل الخطاب للعموم ، وذلك أن دليل الخطاب في قوله - عليه الصلاة والسلام - : "  في سائمة الغنم الزكاة     " يقتضي أن لا زكاة في غير السائمة ، وعموم قوله - عليه الصلاة والسلام - : "  في أربعين شاة شاة     " يقتضي أن السائمة في هذا بمنزلة غير السائمة ، لكن العموم أقوى من دليل الخطاب ، كما أن تغليب المقيد على المطلق أشهر من تغليب المطلق على المقيد . وذهب أبو محمد بن حزم إلى أن المطلق يقضي على المقيد ، وأن في الغنم سائمة وغير سائمة الزكاة ، وكذلك في الإبل لقوله - عليه الصلاة والسلام - : "  ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة     " . وأن البقر لما لم يثبت فيها أثر وجب أن يتمسك فيها بالإجماع ، وهو أن الزكاة في السائمة منها فقط ، فتكون التفرقة بين البقر وغيرها قولا ثالثا .  
وأما القياس المعارض لعموم قوله - عليه الصلاة والسلام - فيها : "  في أربعين شاة شاة     " فهو أن السائمة هي التي المقصود منها النماء والربح ، وهو الموجود فيها أكثر ذلك ، والزكاة إنما هي فضلات الأموال ، والفضلات إنما توجد أكثر ذلك في الأموال السائمة ، ولذلك اشترط فيها الحول ، فمن خصص بهذا القياس ذلك العموم لم يوجب الزكاة في غير السائمة ، ومن لم يخصص ذلك ورأى أن العموم أقوى أوجب ذلك في الصنفين جميعا . فهذا هو ما اختلفوا فيه من الحيوان التي تجب فيه الزكاة .  
 [ ص: 212 ] وأجمعوا على أنه ليس فيما يخرج من الحيوان زكاة إلا  العسل   ، فإنهم اختلفوا فيه ، فالجمهور على أنه لا زكاة فيه ، وقال قوم : فيه الزكاة .  
وسبب اختلافهم : اختلافهم في تصحيح الأثر الوارد في ذلك ، وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : "  في كل عشرة أزق زق     " خرجه الترمذي وغيره .  
وأما ما اختلفوا فيه من النبات بعد اتفاقهم على الأصناف الأربعة التي ذكرناها : فهو  جنس النبات الذي تجب فيه الزكاة   ، فمنهم من لم ير الزكاة إلا في تلك الأربع فقط ، وبه قال   ابن أبي ليلى   وسفيان الثوري   وابن المبارك     . ومنهم من قال : الزكاة في جميع المدخر المقتات من النبات ، وهو قول  مالك   والشافعي     . ومنهم من قال : الزكاة في كل ما تخرجه الأرض ما عدا الحشيش والحطب والقصب ، وهو  أبو حنيفة     .  
وسبب الخلاف : إما بين من قصر الزكاة على الأصناف المجمع عليها ، وبين من عداها إلى المدخر المقتات ، فهو اختلافهم في تعلق الزكاة بهذه الأصناف الأربعة هل هو لعينها أو لعلة فيها - وهي الاقتيات - : فمن قال لعينها قصر الوجوب عليها ، ومن قال لعلة الاقتيات عدى الوجوب لجميع المقتات .  
وسبب الخلاف بين من قصر الوجوب على المقتات وبين من عداه إلى جميع ما تخرجه الأرض إلا ما وقع عليه الإجماع من الحشيش والحطب والقصب هو معارضة القياس لعموم اللفظ :  
أما اللفظ الذي يقتضي العموم فهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : "  فيما سقت السماء العشر ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر     " . و ( ما ) بمعنى الذي ، و ( الذي ) من ألفاظ العموم ، وقوله تعالى : (  وهو الذي أنشأ جنات معروشات      ) الآية . إلى قوله : (  وآتوا حقه يوم حصاده      ) .  
وأما القياس : فهو أن الزكاة إنما المقصود منها سد الخلة ، وذلك لا يكون غالبا إلا فيما هو قوت ، فمن خصص العموم بهذا القياس أسقط الزكاة مما عدا المقتات ، ومن غلب العموم أوجبها فيما عدا ذلك ، إلا ما أخرجه الإجماع .  
والذين اتفقوا على المقتات اختلفوا في أشياء من قبل اختلافهم فيها ، هل هي مقتاتة أم ليست بمقتاتة ؟ وهل يقاس على ما اتفق عليه أو ليس يقاس ؟ مثل اختلاف  مالك   والشافعي  في الزيتون ، فإن  مالكا  ذهب إلى وجوب الزكاة فيه ، ومنع ذلك   الشافعي  في قوله الأخير بمصر .  
وسبب اختلافهم : هل هو قوت أم ليس بقوت ؟  
ومن هذا الباب اختلاف أصحاب  مالك  في إيجاب الزكاة في التين أو لا إيجابها . وذهب بعضهم إلى أن الزكاة تجب في الثمار دون الخضر ، وهو قول  ابن حبيب  لقوله - سبحانه وتعالى - : (  وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات      ) الآية ، ومن فرق في الآية بين الثمار والزيتون فلا وجه لقوله إلا وجه ضعيف .  
واتفقوا على أن لا زكاة في العروض التي لم يقصد بها التجارة ، واختلفوا في : أتجب الزكاة فيما اتخذ منها للتجارة ؟ فذهب فقهاء الأمصار إلى وجوب ذلك ، ومنع ذلك أهل الظاهر .  
والسبب في اختلافهم : اختلافهم في وجوب الزكاة بالقياس ، واختلافهم في تصحيح حديث   سمرة بن جندب  أنه قال : "  كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع     " . وفيما روي عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : "  أد زكاة البر     " .  
 [ ص: 213 ] وأما القياس الذي اعتمده الجمهور : فهو أن العروض المتخذة للتجارة مال مقصود به التنمية ، فأشبه الأجناس التي فيها الزكاة باتفاق - أعني : الحرث والماشية والذهب والفضة - . وزعم   الطحاوي  أن زكاة العروض ثابتة عن  عمر   وابن عمر  ولا مخالف لهما من الصحابة ، وبعضهم يرى أن مثل هذا هو إجماع من الصحابة - أعني : إذا نقل عن واحد منهم قول ولم ينقل عن غيره خلافه - ، وفيه ضعف .  
				
						
						
