[ ص: 290 ] و - القول في رمي الجمار
وأما الفعل بعدها : فهو رمي الجمار ، وذلك أن المسلمين اتفقوا على : " المزدلفة ) بعد ما صلى الفجر ، ثم دفع منها قبل طلوع الشمس إلى منى ، وأنه في هذا اليوم ( وهو يوم النحر ) رمى جمرة العقبة من بعد طلوع الشمس " . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف بالمشعر الحرام ( وهي
وأجمع المسلمون أن من رماها في هذا اليوم في ذلك الوقت - أعني : بعد طلوع الشمس إلى زوالها - فقد رماها في وقتها .
وأجمعوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يرم يوم النحر من الجمرات غيرها .
واختلفوا فيمن ، فقال رمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر مالك : لم يبلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص لأحد أن يرمي قبل طلوع الفجر ، ولا يجوز ذلك ، فإن رماها قبل الفجر أعادها ، وبه قال أبو حنيفة وسفيان وأحمد . وقال : لا بأس به ، وإن كان المستحب هو بعد طلوع الشمس . الشافعي
فحجة منع ذلك فعله - صلى الله عليه وسلم - مع قوله : " " وما روي عن خذوا عني مناسككم : " ابن عباس " . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم ضعفة أهله وقال : لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس
وعمدة من جوز رميها قبل الفجر حديث خرجه أبو داود وغيره وهو : " أم سلمة عائشة قالت : أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ومضت فأفاضت ، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها لأم سلمة " . وحديث أن أسماء : " - . أنها رمت الجمرة بليل وقالت : إنا كنا نصنعه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم
وأجمع العلماء أن الوقت المستحب لرمي جمرة العقبة هو من لدن طلوع الشمس إلى وقت الزوال ، وأنه إن رماها قبل غروب الشمس من يوم النحر أجزأ عنه ولا شيء عليه ، إلا مالكا فإنه قال : أستحب له أن يريق دما .
واختلفوا فيمن ، فقال لم يرمها حتى غابت الشمس فرماها من الليل أو من الغد مالك : عليه دم . وقال أبو حنيفة : إن رمى من الليل فلا شيء عليه ، وإن أخرها إلى الغد فعليه دم . وقال أبو يوسف ومحمد لا شيء عليه إن أخرها إلى الليل أو إلى الغد والشافعي
وحجتهم : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص لرعاة الإبل في مثل ذلك " - أعني : أن يرموا ليلا - . وفي حديث : " ابن عباس " . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له السائل : يا رسول الله رميت بعد ما أمسيت ، قال له : لا حرج
وعمدة مالك : أن ذلك الوقت المتفق عليه الذي رمى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو السنة ، ومن خالف سنة من سنن الحج فعليه دم ، على ما روي عن وأخذ به الجمهور . ابن عباس
وقال مالك : ومعنى الرخصة للرعاة ; إنما ذلك إذا مضى يوم النحر ، ورموا جمرة العقبة ، ثم كان اليوم الثالث ، وهو أول أيام النفر ، فرخص لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرموا في ذلك اليوم له ولليوم الذي بعده ، فإن نفروا فقد فرغوا ، وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الأخير ونفروا .
ومعنى الرخصة للرعاة عند جماعة العلماء : هو جمع يومين في يوم واحد ، إلا أن مالكا إنما يجمع عنده ما وجب ، مثل أن يجمع في الثالث فيرمي عن الثاني والثالث ، لأنه لا يقضى عنده إلا ما وجب ، [ ص: 291 ] ورخص كثير من العلماء في جمع يومين في يوم ، سواء تقدم ذلك اليوم الذي أضيف إلى غيره أو تأخر ، ولم يشبهوه بالقضاء ، وثبت " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمى في حجته الجمرة يوم النحر ، ثم نحر بدنه ، ثم حلق رأسه ، ثم طاف طواف الإفاضة " . وأجمع العلماء على أن هذا سنة الحج .
واختلفوا فيمن ، فقال قدم من هذه ما أخره النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بالعكس مالك : من حلق قبل أن يرمي جمرة العقبة فعليه الفدية . وقال الشافعي وأحمد وداود : لا شيء عليه . وأبو ثور
وعمدتهم : ما رواه مالك من حديث عبد الله بن عمر أنه قال : " بمنى والناس يسألونه ، فجاءه رجل فقال : يا رسول الله ، لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : انحر ولا حرج ، ثم جاءه آخر فقال : يا رسول الله ، لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ارم ولا حرج ، قال : فما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ عن شيء قدم أو أخر إلا قال : افعل ولا حرج " . وروى هذا من طريق وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . ابن عباس
وعمدة مالك : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم على من حلق قبل محله من ضرورة بالفدية فكيف من غير ضرورة ، مع أن الحديث لم يذكر فيه حلق الرأس قبل رمي الجمار ، وعند مالك أن من حلق قبل أن يذبح فلا شيء عليه ، وكذلك من ذبح قبل أن يرمي . وقال أبو حنيفة : إن حلق قبل أن ينحر أو يرمي فعليه دم ، وإن كان قارنا فعليه دمان . وقال زفر : عليه ثلاثة دماء : دم للقران ، ودمان للحلق قبل النحر وقبل الرمي .
وأجمعوا على أن فلا شيء عليه لأنه منصوص عليه ، إلا ما روي عن من نحر قبل أن يرمي أنه كان يقول : من قدم من حجه شيئا أو أخر فليهرق دما ، وأنه من قدم الإفاضة قبل الرمي والحلق أنه يلزمه إعادة الطواف . وقال ابن عباس ومن تابعه : لا إعادة عليه . وقال الشافعي : إذا طاف للإفاضة قبل أن يرمي جمرة العقبة ثم واقع أهله أراق دما . الأوزاعي
واتفقوا على أن سبعون حصاة ، منها في يوم النحر جمرة العقبة بسبع ، وأن رمي هذه الجمرة من حيث تيسر من العقبة من أسفلها أو من أعلاها أو من وسطها كل ذلك واسع ، والموضع المختار منها بطن الوادي ; لما جاء في حديث جملة ما يرميه الحاج : " ابن مسعود " . أنه استبطن الوادي ثم قال : من هاهنا والذي لا إله غيره رأيت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يرمي
وأجمعوا على أنه يعيد الرمي ، وأنه يرمي في كل يوم من أيام التشريق ثلاث جمار بواحد وعشرين حصاة ، كل جمرة منها بسبع ، وأنه يجوز أن يرمي منها يومين وينفر في الثالث لقوله - تعالى - : ( إذا لم تقع الحصاة في العقبة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ) وقدرها عندهم أن يكون في مثل حصى الخذف ; لما روي من حديث جابر وغيرهم : " وابن عباس " . أن النبي - عليه الصلاة والسلام - رمى الجمار بمثل حصى الخذف
والسنة عندهم في رمي الجمرات كل يوم من أيام التشريق أن يرمي الجمرة الأولى فيقف عندها ويدعو ، وكذلك الثانية ويطيل المقام ، ثم يرمي الثالثة ولا يقف لما روي في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنه كان يفعل ذلك في رميه " . والتكبير عندهم عند رمي كل جمرة حسن ; لأنه يروى عنه - عليه الصلاة والسلام .
وأجمعوا على أن أن يكون ذلك بعد الزوال . واختلفوا من سنة رمي الجمار الثلاث في أيام التشريق ، فقال جمهور العلماء : من رماها قبل الزوال أعاد رميها بعد الزوال . وروي عن إذا [ ص: 292 ] رماها قبل الزوال في أيام التشريق أبي جعفر محمد بن علي أنه قال : رمي الجمار من طلوع الشمس إلى غروبها .
وأجمعوا على أن من لم يرم الجمار أيام التشريق حتى تغيب الشمس من آخرها أنه لا يرميها بعد .
واختلفوا في الواجب من الكفارة . فقال مالك : إن فعليه دم ، وقال من ترك الجمار كلها أو بعضها أو واحدة منها أبو حنيفة : إن ترك كلها كان عليه دم ، وإن ترك جمرة واحدة فصاعدا كان عليه لكل جمرة إطعام مسكين نصف صاع حنطة ، إلى أن يبلغ دما بترك الجميع ، إلا جمرة العقبة، فمن تركها فعليه دم . وقال : عليه في الحصاة مد من طعام ، وفي حصاتين مدان ، وفي ثلاث دم . وقال الشافعي مثله ، إلا أنه قال : في الرابعة الدم . ورخصت طائفة من التابعين في الحصاة الواحدة ولم يروا فيها شيئا ، والحجة لهم حديث الثوري قال : " سعد بن أبي وقاص " . وقال أهل الظاهر : لا شيء في ذلك . خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجته ، فبعضنا يقول : رميت بسبع ، وبعضنا يقول : رميت بست ، فلم يعب بعضنا على بعض
والجمهور على أن جمرة العقبة ليست من أركان الحج . وقال عبد الملك من أصحاب مالك : هي من أركان الحج .
فهذه هي جملة أفعال الحج من حين الإحرام إلى أن يحل .
والتحلل تحللان : تحلل أكبر وهو : طواف الإفاضة ، وتحلل أصغر وهو : رمي جمرة العقبة . وسنذكر ما في هذا الاختلاف .