[ ] بيوع الآجال
وأما البيوع التي يعرفوها ببيوع الآجال ، فهي أن يبيع الرجل سلعة بثمن إلى أجل ثم يشتريها بثمن آخر إلى أجل آخر أو نقدا .
وهنا تسع مسائل - إذا لم تكن هناك زيادة عرض - اختلف منها في مسألتين ، واتفق في الباقي ، وذلك أنه من باع شيئا إلى أجل ، ثم اشتراه ، فإما أن يشتريه إلى ذلك الأجل بعينه أو قبله ، أو بعده ، وفي كل واحد من هذه الثلاثة إما أن يشتريه بمثل الثمن الذي باعه به منه ، وإما بأقل ، وإما بأكثر يختلف من ذلك في اثنين; وهو أن يشتريها قبل الأجل نقدا بأقل من الثمن ، أو إلى أبعد من ذلك الأجل بأكثر من ذلك الثمن .
فعند مالك ، وجمهور أهل المدينة أن ذلك لا يجوز . وقال ، الشافعي وداود ، : يجوز . وأبو ثور
فمن منعه فوجه منعه اعتبار البيع الثاني بالبيع الأول ، فاتهمه أن يكون إنما قصد دفع الدنانير في أكثر منها إلى أجل ، وهو الربا المنهي عنه ، فزور لذلك هذه الصورة ليتصلا بها إلى الحرام ، مثل أن يقول قائل لآخر : أسلفني عشرة دنانير إلى شهر ، وأرد إليك عشرين دينارا ، فيقول : هذا لا يجوز ، ولكن أبيع منك هذا الحمار بعشرين إلى شهر ، ثم أشتريه منك بعشرة نقدا . وأما في الوجوه الباقية فليس يتهم فيها لأنه إن أعطى أكثر من الثمن في أقل من ذلك الأجل لم يتهم .
[ ص: 510 ] وكذلك إن اشتراها بأقل من ذلك الثمن إلى أبعد من ذلك الأجل ، ومن الحجة لمن رأى هذا الرأي حديث العالية ، عن عائشة : " أنها سمعتها وقد قالت لها امرأة كانت أم ولد : يا أم المؤمنين ، إني بعت من لزيد بن أرقم زيد عبدا إلى العطاء بثمانمائة فاحتاج إلى ثمنه ، فاشتريته منه قبل محل الأجل بستمائة ، فقالت عائشة : بئسما شريت ، وبئسما اشتريت ، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب ، قالت : أرأيت إن تركت وأخذت الستمائة دينار ؟ قالت : نعم ، فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف . وقال ، وأصحابه : لا يثبت حديث الشافعي عائشة ، وأيضا فإن زيدا قد خالفها ، وإذا اختلفت الصحابة فمذهبنا القياس ، وروي مثل قول ، عن الشافعي . ابن عمر
وأما إذا حدث بالمبيع نقص عند المشتري الأول ، فإن وجماعة من الكوفيين أجازوا لبائعه بالنظرة أن يشتريه نقدا بأقل من ذلك الثمن ، وعن الثوري مالك في ذلك روايتان .
والصور التي يعتبرها مالك في الذرائع في هذه البيوع هي أن يتذرع منها إلى : أنظرني أزدك ، أو إلى بيع ما لا يجوز متفاضلا ، أو بيع ما لا يجوز نساء ، أو إلى بيع ، وسلف ، أو إلى ذهب ، وعرض بذهب ، أو إلى : ضع وتعجل ، أو بيع الطعام قبل أن يستوفي ، أو بيع أو صرف ، فإن هذه هي أصول الربا .
ومن هذا الباب اختلافهم فيمن باع طعاما بطعام قبل أن يقبضه ، فمنعه مالك ، وأبو حنيفة ، وجماعة ، وأجازه ، الشافعي ، والثوري وجماعة . وحجة من كرهه أنه شبيه ببيع الطعام بالطعام نساء ، ومن أجازه لم ير ذلك فيه اعتبارا بترك القصد إلى ذلك . والأوزاعي
ومن ذلك اختلافهم فيمن اشترى طعاما بثمن إلى أجل معلوم ، فلما حل الأجل لم يكن عند البائع طعام يدفعه إليه ، فاشترى من المشتري طعاما بثمن يدفعه إليه مكان طعامه الذي وجب له فأجاز ذلك ، وقال : لا فرق بين أن يشتري الطعام من غير المشتري الذي وجب له عليه ، أو من المشتري نفسه; ومنع من ذلك الشافعي مالك ، ورآه من الذريعة إلى بيع الطعام قبل أن يستوفي ، لأنه رد إليه الطعام الذي كان ترتب في ذمته ، فيكون قد باعه منه قبل أن يستوفيه .
وصورة الذريعة في ذلك : أن يشتري رجل من آخر طعاما إلى أجل معلوم ، فإذا حل الأجل قال الذي عليه الطعام : ليس عندي طعام ، ولكن أشتري منك الطعام الذي وجب لك علي ، فقال هذا لا يصح لأنه بيع الطعام قبل أن يستوفي فيقول له : فبع طعاما مني وأرده عليك ، فيعرض من ذلك ما ذكرناه ، ( أعني : أن يرد عليه ذلك الطعام الذي أخذ منه ، ويبقي الثمن المدفوع إنما هو ثمن الطعام الذي هو في ذمته ) .
وأما : فلا يعتبر التهم كما قلنا ، وإنما يراعي فيما يحل ويحرم من البيوع ما اشترطا وذكراه بألسنتهما وظهر من فعلهما لإجماع العلماء على أنه إذا قال : أبيعك هذه الدراهم بدراهم مثلها ، وأنظرك بها حولا ، أو شهرا أنه لا يجوز ، ولو قال له : أسلفني دراهم ، وأمهلني بها حولا أو شهرا جاز ، فليس بينهما إلا اختلاف لفظ البيع ، وقصده ، ولفظ القرض وقصده . الشافعي
ولما كانت أصول الربا كما قلنا خمسة : أنظرني أزدك ، والتفاضل ، والنساء ، وضع وتعجل ، وبيع [ ص: 511 ] الطعام قبل قبضه ؛ فإنه يظن أنه من هذا الباب ، إذ فاعل ذلك يدفع دنانير ويأخذ أكثر منها من غير تكلف فعل ، ولا ضمان يتعلق بذمته ، فينبغي أن نذكر هاهنا هذين الأصلين .
أما ضع وتعجل : فأجازه من الصحابة ابن عباس وزفر من فقهاء الأمصار ، ومنعه جماعة منهم من الصحابة ، ابن عمر ومالك ، وأبو حنيفة ، ، وجماعة من فقهاء الأمصار ، واختلف قول والثوري في ذلك ، فأجاز الشافعي مالك ، وجمهور من ينكر : ضع وتعجل ، أن يتعجل الرجل في دينه المؤجل عرضا يأخذه ، وإن كانت قيمته أقل من دينه . وعمدة من لم يجز ضع وتعجل : أنه شبيه بالزيادة مع النظرة المجتمع على تحريمها ، ووجه شبهه بها أنه جعل للزمان مقدارا من الثمن بدلا منه في الموضعين جميعا ، وذلك أنه هنالك لما زاد له في الزمان زاد له عرضه ثمنا ، وهنا لما حط عنه الزمان حط عنه في مقابلته ثمنا . وعمدة من أجازه : ما روي عن : " ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر بإخراج بني النضير جاءه ناس منهم ، فقالوا : يا نبي الله ، إنك أمرت بإخراجنا ، ولنا على الناس ديون لم تحل ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ضعوا وتعجلوا " ، فسبب الخلاف معارضة قياس الشبه لهذا الحديث .