[ 2 - ] بيوع الثنيا
وفي الاستثناء مسائل مشهورة من هذا الباب اختلف الفقهاء فيها ، ( أعني : هل تدخل تحت النهي عن الثنيا ، أو ليست تدخل ؟ ) .
فمن ذلك : أن يبيع الرجل حاملا ويستثني ما في بطنها ، فجمهور فقهاء الأمصار مالك ، وأبو حنيفة ، ، والشافعي على أنه لا يجوز; وقال والثوري أحمد ، ، وأبو ثور وداود : ذلك جائز ، وهو مروي عن . [ ص: 527 ] وسبب الخلاف : هل المستثنى مبيع مع ما استثني منه ، أم ليس بمبيع وإنما هو باق على ملك البائع ؟ فمن قال : مبيع قال : لا يجوز ، وهو من الثنيا المنهي عنها ، لما فيها من الجهل بصفته ، وقلة الثقة بسلامة خروجه; ومن قال : هو باق على ملك البائع أجاز ذلك . ابن عمر
وتحصيل مذهب مالك فيمن باع حيوانا ، واستثنى بعضه أن ذلك البعض لا يخلو أن يكون شائعا ، أو معينا ، أو مقدرا ، فإن كان شائعا فلا خلاف في جوازه مثل أن يبيع عبدا إلا ربعه . وأما إن كان معينا فلا يخلو أن يكون مغيبا مثل الجنين ، أو يكون غير مغيب ، فإن كان مغيبا فلا يجوز ، وإن كان غير مغيب كالرأس ، واليد ، والرجل ، فلا يخلو الحيوان أن يكون مما يستباح ذبحه ، أو لا يكون ، فإن كان مما لا يستباح ذبحه فإنه لا يجوز ، لأنه لا يجوز أن يبيع أحد غلاما ويستثني رجله ، لأن حقه غير متميز ، ولا متبعض ، وذلك مما لا خلاف فيه ، وإن كان الحيوان مما يستباح ذبحه ، فإن باعه واستثنى منه عضوا له قيمة بشرط الذبح ، ففي المذهب فيه قولان : أحدهما أنه لا يجوز وهو المشهور; والثاني يجوز ، وهو قول ابن حبيب : جوز بيع الشاة مع استثناء القوائم والرأس . وأما إذا لم يكن للمستثنى قيمة فلا خلاف في جوازه في المذهب ، ووجه قول مالك إنه كان استثناؤه بجلده فما تحت الجلد مغيب وإن كان لم يستثنه بجلده فإنه لا يدري بأي صفة يخرج له بعد كشط الجلد عنه . ووجه قول ابن حبيب أنه استثنى عضوا معينا معلوما ، فلم يضره ما عليه من الجلد أصله شراء الحب في سنبله ، والجوز في قشره .
وأما إن كان المستثنى من الحيوان بشرط الذبح إما عرفا وإما ملفوظا به جزءا مقدرا مثل أرطال من جزور ، فعن مالك في ذلك روايتان : إحداهما المنع ، وهي رواية ابن وهب ; والثانية الإجازة في الأرطال اليسيرة فقط ، وهي رواية ابن القاسم .
وأجمعوا من هذا الباب على جواز بيع الرجل ثمر حائطه ، واستثناء نخلات معينات منه قياسا على جواز شرائها . واتفقوا على أنه لا يجوز أن يستثني من حائط له عدة نخلات غير معينات إلا بتعيين المشتري لها بعد البيع ، لأنه بيع ما لم يره المتبايعان .
واختلفوا في الرجل يبيع الحائط ويستثني منه عدة نخلات بعد البيع ، فمنعه الجمهور لمكان اختلاف صفة النخيل; وروي عن مالك إجازته; ومنع ابن القاسم قوله في النخلات ، وأجازه في استثناء الغنم . وكذلك اختلف قول مالك ، وابن القاسم في شراء نخلات معدودة من حائطه على أن يعينها بعد الشراء المشتري فأجازه مالك ، ومنعه ابن القاسم .
وكذلك اختلفوا إذا استثنى البائع مكيله من حائط; قال : فمنع ذلك فقهاء الأمصار الذين تدور الفتوى عليهم ، وألفت الكتاب على مذاهبهم أبو عمر بن عبد البر لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الثنيا في البيع ، لأنه استثناء مكيل من جزاف; وأما مالك ، وسلفه من أهل المدينة فإنهم أجازوا ذلك فيما دون الثلث ومنعوه فيما فوقه ، وحملوا النهي على الثنيا على ما فوق الثلث ، وشبهوا بيع ما عدا المستثنى ببيع الصبرة التي لا يعلم مبلغ كيلها فتباع جزافا ، ويستثنى منها كيل ما ، وهذا الأصل أيضا مختلف فيه ، ( أعني : إذا استثني منها كيل معلوم ) .
[ ص: 528 ] واختلف العلماء من هذا الباب في بيع وإجارة معا في عقد واحد ، فأجازه مالك ، وأصحابه ، ولم يجزه الكوفيون ولا ، لأن الثمن يرون أنه يكون حينئذ مجهولا ، الشافعي ومالك يقول : إذا كانت الإجارة معلومة لم يكن الثمن مجهولا ، وربما رآه الذين منعوه من باب بيعتين في بيعة .
وأجمعوا على أنه لا يجوز السلف أو البيع كما قلنا . واختلف قول مالك في إجازة السلف والشركة ، فمرة أجاز ذلك ، ومرة منعه ، وهذه كلها اختلف العلماء فيها لاختلافها بالأقل والأكثر في وجود علل المنع فيها المنصوص عليها ، فمن قويت عنده علة المنع في مسألة منها منعها ، ومن لم تقو عنده أجازها ، وذلك راجع إلى ذوق المجتهد ، لأن هذه المواد يتجاذب القول فيها إلى الضدين على السواء عند النظر فيها ، ولعل في أمثال هذه المواد يكون القول بتصويب كل مجتهد صوابا ، ولهذا ذهب بعض العلماء في أمثال هذه المسائل إلى التخيير .