فأما . المفلس : فله حالان : حال في وقت الفلس قبل الحجر عليه ، وحال بعد الحجر
فأما قبل الحجر : فلا يجوز له إتلاف شيء من ماله عند مالك بغير عوض إذا كان مما لا يلزمه ، ومما لا تجري العادة بفعله . وإنما اشترط إذا كان مما لا يلزمه; لأن له أن يفعل ما يلزم بالشرع ، وإن لم يكن بعوض ، كنفقته على الآباء المعسرين ، أو الأبناء ، وإنما قيل مما لم تجر العادة بفعله; لأن له إتلاف اليسير من ماله بغير عوض كالأضحية ، والنفقة في العيد ، والصدقة اليسيرة ، وكذلك تراعى العادة في إنفاقه في عوض كالتزوج ، والنفقة على الزوجة .
ويجوز بيعه ، وابتياعه ما لم تكن فيه محاباة ، وكذلك يجوز إقراره بالدين لمن لا يتهم عليه . واختلف قول مالك في قضاء بعض غرمائه دون بعض وفي رهنه .
وأما جمهور من قال بالحجر على المفلس فقالوا : هو قبل الحكم كسائر الناس ، وإنما ذهب الجمهور لهذا; لأن الأصل هو جواز الأفعال حتى يقع الحجر ، ومالك كأنه اعتبر المعنى نفسه ، وهو إحاطة الدين بماله ، لكن لم يعتبره في كل حال; لأنه يجوز بيعه ، وشراؤه إذا لم يكن فيه محاباة ، ولا يجوزه للمحجور عليه .
وأما حاله بعد التفليس : فلا يجوز له فيها عند مالك بيع ، ولا شراء ، ولا أخذ ، ولا عطاء ، ولا يجوز إقراره بدين في ذمته لقريب ولا بعيد ، قيل : إلا أن يكون لواحد منهم بينة ، وقيل : يجوز لمن يعلم منه إليه تقاض . واختلف في إقراره بمال معين مثل القراض ، والوديعة على ثلاثة أقوال في المذهب : بالجواز ، والمنع ، والثالث : بالفرق بين أن يكون على أصل القراض ، أو الوديعة ببينة ، أو لا تكون ، فقيل : إن كانت صدق وإن لم تكن لم يصدق .
واختلفوا من هذا الباب في ؟ فذهب ديون المفلس المؤجلة ; هل تحل بالتفليس أم لا مالك إلى أن التفليس في ذلك كالموت ، وذهب غيره إلى خلاف ذلك ، وجمهور العلماء على أن الديون تحل بالموت . قال : مضت السنة بأن دينه قد حل حين مات . ابن شهاب
وحجتهم : أن الله تبارك وتعالى لم يبح التوارث إلا بعد قضاء الدين ، فالورثة في ذلك بين أحد أمرين : إما أن لا يريدوا أن يؤخروا حقوقهم في المواريث إلى محل أجل الدين فيلزم أن يجعل الدين حالا ، وإما أن يرضوا بتأخير ميراثهم حتى تحل الديون فتكون الديون حينئذ في التركة خاصة لا في ذممهم ، بخلاف ما كان عليه الدين قبل الموت; لأنه كان في ذمة الميت ، وذلك يحسن في حق ذي الدين . ولذلك [ ص: 629 ] رأى بعضهم أنه إن رضي الغرماء بتحمله في ذممهم أبقيت الديون إلى أجلها ، وممن قال بهذا القول ، واختاره ابن سيرين أبو عبيد من فقهاء الأمصار ، لكن لا يشبه الفلس في هذا المعنى الموت كل الشبه ، وإن كانت كلتا الذمتين قد خربت ، فإن ذمة المفلس يرجى المال لها ، بخلاف ذمة الميت .
وأما النظر فيما يرجع به أصحاب الديون من مال المفلس : فإن ذلك يرجع إلى الجنس ، والقدر . أما ما كان قد ذهب عين العوض الذي استوجب من قبله الغريم على المفلس فإن دينه في ذمة المفلس . وأما إذا كان عين العوض باقيا بعينه لم يفت إلا أنه لم يقبض ثمنه ، فاختلف في ذلك فقهاء الأمصار على أربعة أقوال :
الأول : أن صاحب السلعة أحق بها على كل حال إلا أن يتركها ، ويختار المحاصة ، وبه قال ، الشافعي وأحمد ، . وأبو ثور
والقول الثاني : ينظر إلى قيمة السلعة يوم الحكم بالتفليس ، فإن كانت أقل من الثمن خير صاحب السلعة بين أن يأخذها ، أو يحاص الغرماء ، وإن كانت مساوية للثمن أخذها بعينها ، وبه قال مالك ، وأصحابه .
والقول الثالث : تقوم السلعة بين التفليس ، فإن كانت قيمتها مساوية للثمن ، أو أقل منه قضي له بها ( أعني : للبائع ) ، وإن كانت أكثر دفع إليه مقدار ثمنه ، ويتحاصون في الباقي ، وبهذا القول قال جماعة من أهل الأثر .
والقول الرابع : أنه أسوة الغرماء فيها على كل حال ، وهو قول أبي حنيفة ، وأهل الكوفة .
والأصل في هذه المسألة : ما ثبت من حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أبي هريرة " . وهذا الحديث خرجه أيما رجل أفلس فأدرك الرجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره مالك ، ، والبخاري ومسلم ، وألفاظهم متقاربة ، وهذا اللفظ لمالك .
فمن هؤلاء من حمله على عمومه وهو الفريق الأول . ومنهم من خصصه بالقياس وقالوا : إن معقوله إنما هو الرفق بصاحب السلعة لكون سلعته باقية ، وأكثر ما في ذلك أن يأخذ الثمن الذي باعها به ، فأما أن يعطي في هذه الحال الذي اشترك فيها مع الغرماء أكثر من ثمنها فذلك مخالف لأصول الشرع ، وبخاصة إذا كان للغرماء أخذها بالثمن كما قال مالك .
وأما أهل الكوفة فردوا هذا الحديث بجملته لمخالفته للأصول المتواترة على طريقتهم في رد الخبر الواحد إذا خالف الأصول المتواترة ، لكون خبر الواحد مظنونا ، والأصول يقينية مقطوع بها ، كما قال عمر في حديث : ما كنا لندع كتاب الله وسنة نبينا لحديث امرأة . ورواه عن فاطمة بنت قيس علي أنه قضى بالسلعة للمفلس ، وهو رأي ، ابن سيرين وإبراهيم من التابعين .
وربما احتجوا بأن حديث مختلف فيه ، وذلك أن أبي هريرة روى عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أبي هريرة " . وهذا الحديث أولى; لأنه موافق للأصول الثابتة . قالوا : وللجمع بين الحديثين وجه ، وهو حمل ذلك الحديث على الوديعة والعارية ، إلا أن الجمهور دفعوا هذا التأويل بما ورد في لفظ حديث أيما رجل مات ، أو أفلس فوجد بعض غرمائه ماله بعينه فهو أسوة الغرماء [ ص: 630 ] في بعض الروايات من ذكر البيع ، وهذا كله عند الجميع بعد قبض المشتري السلعة ، فأما قبل القبض فالعلماء متفقون أبي هريرة أهل الحجاز ، وأهل العراق أن صاحب السلعة أحق بها; لأنها في ضمانه .
واختلف القائلون بهذا الحديث إذا قبض البائع بعض الثمن ، فقال مالك : إن شاء أن يرد ما قبض ويأخذ السلعة كلها ، وإن شاء حاص الغرماء فيما بقي من سلعته . وقال : بل يأخذ ما بقي من سلعته بما بقي من الثمن . وقالت جماعة من أهل العلم الشافعي داود ، وإسحاق ، وأحمد : إن قبض من الثمن شيئا فهو أسوة الغرماء .
وحجتهم : ما روى مالك ، عن ، عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أبي بكر بن عبد الرحمن " . وهو حديث ، وإن أرسله أيما رجل باع متاعا ، فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به ، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع أسوة الغرماء مالك فقد أسنده عبد الرزاق ، وقد روي من طريق ، عن الزهري فيه زيادة بيان ، وهو قوله فيه : " أبي هريرة " . ذكره فإن كان قبض من ثمنه شيئا فهو أسوة الغرماء أبو عبيد في كتابه في الفقه ، وخرجه .
وحجة : أن كل سلعة ، أو بعضها في الحكم واحد . الشافعي
ولم يختلفوا أنه إذا فوت المشتري بعضها أن البائع أحق بالمقدار الذي أدرك من سلعته ، إلا عطاء فإنه قال : إذا فوت المشتري بعضها كان البائع أسوة الغرماء .