الجملة الثانية
[ في أحكام اللقطة ]
وأما ، فاتفق العلماء على تعريف ما كان منها له بال سنة ما لم تكن من الغنم . واختلفوا في حكمها بعد السنة ، فاتفق فقهاء الأمصار حكم التعريف مالك ، والثوري ، والأوزاعي وأبو حنيفة ، ، والشافعي وأحمد ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، أو يتصدق بها إن كان غنيا ، فإن جاء صاحبها كان مخيرا بين أن يجيز الصدقة فينزل على ثوابها أو يضمنه إياها . إذا انقضت كان له أن يأكلها إن كان فقيرا
واختلفوا في فقال الغني هل له أن يأكلها أو ينفقها بعد الحول ؟ مالك : له ذلك ، وقال والشافعي أبو حنيفة : ليس له إلا أن يتصدق بها ، وروي مثل قوله عن علي وجماعة من التابعين . وقال وابن عباس : إن كان مالا كثيرا جعله في بيت المال ، وروي مثل قول الأوزاعي مالك عن والشافعي عمر وابن مسعود وابن عمر وعائشة .
وكلهم متفقون على أنه إلا أهل الظاهر . إن أكلها ضمنها لصاحبها
واستدل مالك بقوله - عليه الصلاة والسلام - : " فشأنك بها " ولم يفرق بين غني وفقير . ومن الحجة لهما ما رواه والشافعي البخاري عن والترمذي قال : " سويد بن غفلة أويس بن كعب فقال : وجدت صرة فيها مائة دينار ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : عرفها حولا ، فعرفتها فلم أجد ، ثم أتيته ثلاثا فقال : احفظ وعاءها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها " وخرج لقيت الترمذي وأبو داود " فاستنفقها " .
فسبب الخلاف معارضة ظاهر لفظ حديث اللقطة لأصل الشرع ، وهو أنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه .
فمن غلب هذا الأصل على ظاهر الحديث ، وهو قوله بعد التعريف " فشأنك بها " قال : لا يجوز فيها تصرف إلا بالصدقة فقط على أن يضمن إن لم يجز صاحب اللقطة الصدقة ، ومن غلب ظاهر الحديث [ ص: 645 ] على هذا الأصل ورأى أنه مستثنى منه ، قال : تحل له بعد العام وهي مال من ماله لا يضمنها إن جاء صاحبها . ومن توسط قال : يتصرف بعد العام فيها وإن كانت عينا على جهة الضمان .
وأما حكم ، فاتفقوا على أنها لا تدفع إليه إذا لم يعرف العفاص ولا الوكاء ، واختلفوا إذا عرف ذلك هل يحتاج مع ذلك إلى بينة أم لا ؟ فقال دفع اللقطة لمن ادعاها مالك : يستحق بالعلامة ولا يحتاج إلى بينة ، وقال أبو حنيفة ، : لا يستحق إلا ببينة . والشافعي
وسبب الخلاف معارضة الأصل في لظاهر هذا الحديث . اشتراط الشهادة في صحة الدعوى
فمن غلب الأصل قال : لا بد من البينة ، ومن غلب ظاهر الحديث ، قال : لا يحتاج إلى بينة .
وإنما اشترط الشهادة في ذلك ، الشافعي وأبو حنيفة لأن قوله - عليه الصلاة والسلام - " " يحتمل أن يكون إنما أمره بمعرفة العفاص والوكاء لئلا تختلط عنده بغيرها ، ويحتمل أن يكون إنما أمره بذلك ليدفعها لصاحبها بالعفاص والوكاء ، فلما وقع الاحتمال وجب الرجوع إلى الأصل ، فإن الأصول لا تعارض بالاحتمالات المخالفة لها إلا أن تصح الزيادة التي نذكرها بعد . اعرف عفاصها ووكاءها ; فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها
وعند مالك وأصحابه أن ، قالوا : وذلك موجود في بعض روايات الحديث ، ولفظه : " على صاحب اللقطة أن يصف مع العفاص والوكاء صفة الدنانير والعدد " قالوا : ولكن لا يضره الجهل بالعدد إذا عرف العفاص والوكاء ، وكذلك إن زاد فيه . فإن جاء صاحبها ووصف عفاصها ووكاءها وعددها فادفعها إليه
واختلفوا إن نقص من العدد على قولين ، وكذلك اختلفوا إذا جهل الصفة وجاء بالعفاص والوكاء . وأما إذا غلط فيها فلا شيء له . وأما إذا عرف إحدى العلامتين اللتين وقع النص عليهما وجهل الأخرى فقيل إنه لا شيء له إلا بمعرفتهما جميعا ، وقيل يدفع إليه بعد الاستبراء ، وقيل إن ادعى الجهالة استبرئ ، وإن غلط لم تدفع إليه .
واختلف المذهب إذا أتى بالعلامة المستحقة هل يدفع إليه بيمين أو بغير يمين ؟ فقال ابن القاسم بغير يمين : وقال أشهب : بيمين .
وأما ، فإن العلماء اتفقوا على أن لواجد ضالة الغنم في المكان القفر البعيد من العمران أن يأكلها ضالة الغنم " واختلفوا هل يضمن قيمتها لصاحبها أم لا ؟ فقال جمهور العلماء إنه يضمن قيمتها ، وقال لقوله - عليه الصلاة والسلام - في الشاة : " هي لك أو لأخيك أو للذئب مالك في أشهر الأقاويل عنه : إنه لا يضمن .
وسبب الخلاف معارضة الظاهر كما قلنا للأصل المعلوم من الشريعة ، إلا أن مالكا هنا غلب الظاهر فجرى على حكم الظاهر ، ولم يجز كذلك التصرف فيما وجب تعريفه بعد العام لقوة اللفظ ههنا ، وعنه رواية أخرى أنه يضمن ، وكذلك كل طعام لا يبقى إذا خشي عليه التلف إن تركه .
وتحصيل مذهب مالك عند أصحابه في ذلك أنها على ثلاثة أقسام :
1 - إن تركه ، كالعين والعروض . قسم يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه من التلف
2 - إن ترك كالشاة في القفر ، والطعام الذي يسرع إليه الفساد . وقسم لا يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه من التلف
[ ص: 646 ] 3 - وقسم لا يخشى عليه من التلف .
فأما القسم الأول ، وهو ما يبقى في يد ملتقطه ويخشى عليه التلف ، فإنه ينقسم ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يكون يسيرا لا بال له ولا قدر لقيمته ويعلم أن صاحبه لا يطلبه لتفاهته ، فهذا لا يعرف عنده وهو لمن وجده . والأصل في ذلك ما روي " " ، ولم يذكر فيها تعريفا ، وهذا مثل العصا والسوط ، وإن كان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بتمرة في الطريق فقال : لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها أشهب قد استحسن تعريف ذلك .
والثاني : أن يكون يسيرا إلا أن له قدرا ومنفعة ، فهذا لا اختلاف في المذهب في تعريفه ، واختلفوا في قدر ما يعرف ، فقيل سنة ، وقيل أياما .
وأما الثالث فهو أن يكون كثيرا أو له قدر ، فهذا لا اختلاف في وجوب تعريفه حولا . وأما القسم الثاني : وهو ما لا يبقى بيد ملتقطه ويخشى عليه التلف ، فإن هذا يأكله كان غنيا أو فقيرا ، وهل يضمن ؟ فيه روايتان كما قلنا : الأشهر أن لا ضمان . واختلفوا إن وجد ما يسرع إليه الفساد في الحاضرة ، فقيل لا ضمان عليه ، وقيل عليه الضمان ، وقيل بالفرق بين أن يتصدق به فلا يضمن ، أو يأكله فيضمن .
وأما القسم الثالث : فهو كالإبل ، أعني أن الاختيار عنده فيه الترك للنص الوارد في ذلك ، فإن أخذها وجب تعريفها ، والاختيار تركها ، وقيل في المذهب هو عام في جميع الأزمنة ، وقيل إنما هو في زمان العدل ، وأن الأفضل في زمان غير العدل التقاطها .
وأما ضمانها في الذي تعرف فيه ، فإن العلماء اتفقوا على أن ، واختلفوا إذا لم يشهد ، فقال من التقطها وأشهد على التقاطها فهلكت عنده أنه غير ضامن مالك ، ، والشافعي وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن : لا ضمان عليه إن لم يضيع وإن لم يشهد ، وقال أبو حنيفة ، وزفر : يضمنها إن هلكت ولم يشهد .
استدل مالك بأن اللقطة وديعة فلا ينقلها ترك الإشهاد من الأمانة إلى الضمان ، قالوا : وهي وديعة بما جاء من حديث والشافعي وغيره أنه قال : إن جاء صاحبها وإلا فلتكن وديعة عندك . واستدل سليمان بن بلال أبو حنيفة وزفر بحديث ، عن مطرف بن الشخير عياض بن حمار قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " " . من التقط لقطة فليشهد ذوي عدل عليها ولا يكتم ولا يعنت ، فإن جاء صاحبها فهو أحق بها ، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء
وتحصيل المذهب في ذلك أن عند واجد اللقطة مالك لا يخلو التقاطه لها من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يأخذها على جهة الاغتيال لها .
والثاني : أن يأخذها على جهة الالتقاط .
والثالث : أن يأخذها لا على جهة الالتقاط ولا على جهة الاغتيال .
فإن أخذها على جهة الالتقاط فهي أمانة عنده عليه حفظها وتعريفها ، فإن ردها بعد أن التقطها ، فقال ابن القاسم : يضمن ، وقال أشهب : لا يضمن إذا ردها في موضعها ، فإن ردها في غير موضعها ضمن كالوديعة ، والقول قوله في تلفها دون يمين إلا أن يتهم .
[ ص: 647 ] وأما إذا قبضها مغتالا لها فهو ضامن لها ، ولكن لا يعرف هذا الوجه إلا من قبله .
وأما الوجه الثالث ، فهو مثل أن يجد ثوبا فيأخذه ، وهو يظنه لقوم بين يديه ليسألهم عنه ، فهذا إن لم يعرفوه ولا ادعوه كان له أن يرده حيث وجده ولا ضمان عليه باتفاق عند أصحاب مالك .
وتتعلق بهذا الباب مسألة اختلف العلماء فيها ، وهو ، فقال العبد يستهلك اللقطة مالك : إنها في رقبته إما أن يسلمه سيده فيها ، وإما أن يفديه بقيمتها ، هذا إذا كان استهلاكه قبل الحول ، فإن استهلكها بعد الحول كانت دينا عليه ، ولم تكن في رقبته . وقال : إن علم بذلك السيد فهو الضامن ، وإن لم يعلم بها السيد كانت في رقبة العبد . الشافعي
واختلفوا ؟ فقال الجمهور : ملتقط اللقطة متطوع بحفظها فلا يرجع بشيء من ذلك على صاحب اللقطة . وقال هل يرجع الملتقط بما أنفق على اللقطة على صاحبها أم لا الكوفيون : لا يرجع بما أنفق إلا أن تكون النفقة عن إذن الحاكم ، وهذه المسألة هي من أحكام الالتقاط ، وهذا القدر كاف بحسب غرضنا في هذا الباب .