المسألة الرابعة
وهي
أجمع جمهور العلماء القائلون بها أنها لا تجب إلا بشبهة . واختلفوا في الشبهة ما هي ؟ فقال موجب القسامة عند القائلين بها : إذا كانت الشبهة في معنى الشبهة التي قضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقسامة وهو أن يوجد قتيل في محلة قوم لا يخالطهم غيرهم ، وبين أولئك القوم ، وبين قوم المقتول عداوة كما كانت العداوة بين الأنصار واليهود ، وكانت خيبر دار اليهود مختصة بهم ، ووجد فيها القتيل من الأنصار ، قال : وكذلك لو وجد في ناحية قتيل وإلى جانبه رجل مختضب بالدم ، وكذلك لو دخل على نفر في بيت فوجد بينهم قتيلا وما أشبه هذه الشبه مما يغلب على ظن الحكام أن المدعي محق لقيام تلك الشبهة . الشافعي
وقال مالك بنحو من هذا ( أعني : أن القسامة لا تجب إلا بلوث ) ، والشاهد الواحد عنده إذا كان عدلا لوث باتفاق عند أصحابه ، واختلفوا إذا لم يكن عدلا . وكذلك وافق في قرينة الحال المخيلة مثل أن يوجد قتيل متشحطا بدمه وبقربه إنسان بيده حديدة مدماة ، إلا أن الشافعي مالكا يرى أن وجود القتيل في المحلة ليس لوثا ، وإن كانت هنالك عداوة بين القوم الذين منهم القتيل وبين أهل المحلة ، وإذا كان ذلك كذلك لم يبق هاهنا شيء يجب أن يكون أصلا لاشتراط اللوث في وجوبها ، ولذلك لم يقل بها قوم .
[ ص: 745 ] وقال أبو حنيفة وصاحباه : إذا وجد قتيل في محلة قوم وبه أثر وجبت القسامة على أهل المحلة .
ومن أهل العلم من أوجب القسامة بنفس وجود القتيل في المحلة دون سائر الشرائط التي اشترط ، ودون وجود الأثر بالقتيل الذي اشترطه الشافعي أبو حنيفة ، وهو مروي عن عمر وعلي ، وقال به وابن مسعود وجماعة من التابعين وهو مذهب الزهري قال : القسامة تجب متى وجد قتيل لا يعرف من قتله أينما وجد ، فادعى ولاة الدم على رجل وحلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا ; فإن هم حلفوا على العمد فالقود وإن حلفوا على الخطأ فالدية ، وليس يحلف عنده أقل من خمسين رجلا ، وعند ابن حزم مالك رجلان فصاعدا من أولئك .
وقال داود : لا أقضي بالقسامة إلا في مثل السبب الذي قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وانفرد مالك والليث من بين فقهاء الأمصار القائلين بالقسامة ، فجعلا قول المقتول فلان قتلني لوثا يوجب القسامة .
وكل قال بما غلب على ظنه أنه شبهة يوجب القسامة ولمكان الشبهة رأى تبدئة المدعين بالأيمان من رأى ذلك منهم ، فإن الشبه عند مالك تنقل اليمين من المدعى عليه إلى المدعي ، إذ سبب تعليق الشرع عنده اليمين بالمدعى عليه ، إنما هو لقوة شبهته فيما ينفيه عن نفسه ، وكأنه شبه ذلك باليمين مع الشاهد في الأموال .
وأما القول بأن نفس الدعوى شبهة فضعيف ومفارق للأصول والنص لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " وهو حديث ثابت من حديث " لو يعطى الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ، وخرجه ابن عباس مسلم في صحيحه ، وما احتجت به المالكية من قصة بقرة بني إسرائيل فضعيف ; لأن التصديق هنالك أسند إلى الفعل الخارق للعادة .
واختلف الذين أوجبوا القود بالقسامة هل يقتل بها أكثر من واحد ؟ فقال مالك : لا تكون القسامة إلا على واحد ، وبه قال : ، وقال أحمد بن حنبل أشهب : يقسم على الجماعة ويقتل منها واحد يعينه الأولياء ، وهو ضعيف ، وقال المغيرة المخزومي : كل من أقسم عليه قتل ، وقال مالك والليث : إذا شهد اثنان عدلان أن إنسانا ضرب آخر وبقي المضروب أياما بعد الضرب ثم مات أقسم أولياء المضروب إنه مات من ذلك الضرب وقيد به ، وهذا كله ضعيف .
واختلفوا في القسامة في العبد ، فبعض أثبتها ، وبه قال أبو حنيفة تشبيها بالحر ، وبعض نفاها تشبيها بالبهيمة ، وبها قال مالك ، والدية عندهم فيها في مال القاتل .
ولا يحلف فيها أقل من خمسين رجلا خمسين يمينا عند مالك ، ولا يحلف عنده أقل من اثنين في الدم ويحلف الواحد في الخطأ .
وإن نكل عنده أحد من ولاة الدم بطل القود وصحت الدية في حق من لم ينكل ( أعني : حظه منها ) . وقال : إن نكل منهم أحد بطلت الدية في حق الجميع ، وفروع هذا الباب كثيرة . الزهري
قال القاضي : والقول في القسامة هو داخل فيما تثبت به الدماء ، وهو في الحقيقة جزء من كتاب الأقضية ، ولكن ذكرناه هنا على عادتهم ، وذلك أنه إذا ورد قضاء خاص بجنس من أجناس الأمور الشرعية [ ص: 746 ] رأوا أن الأولى أن يذكر في ذلك الجنس . وأما القضاء الذي يعم أكثر من جنس واحد من أجناس الأشياء التي يقع فيها القضاء فيذكر في كتاب الأقضية ، وقد تجدهم يفعلون الأمرين جميعا كما فعل مالك في الموطأ ، فإنه ساق فيه الأقضية من كل كتاب .