بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما
كتاب القذف
والنظر في هذا الكتاب : في القذف ، والقاذف ، والمقذوف ، وفي العقوبة الواجبة فيه ، وبماذا تثبت .
والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ) الآية .
فأما فإنهم اتفقوا على أن من شرطه وصفين : وهما البلوغ والعقل ، وسواء كان ذكرا أو أنثى ، حرا أو عبدا ، مسلما أو غير مسلم . القاذف
وأما فاتفقوا على أن من شرطه أن يجتمع فيه خمسة أوصاف وهي : البلوغ والحرية والعفاف والإسلام ، وأن يكون معه آلة الزنى ، فإن انخرم من هذه الأوصاف وصف لم يجب الحد ، والجمهور بالجملة على اشتراط الحرية في المقذوف ، ويحتمل أن يدخل في ذلك خلاف ، المقذوف ومالك يعتبر في سن المرأة أن تطيق الوطء .
[ ص: 753 ] وأما ، فاتفقوا على وجهين : القذف الذي يجب به الحد
أحدهما : أن يرمي القاذف المقذوف بالزنى .
والثاني : أن ينفيه عن نسبه إذا كانت أمه حرة مسلمة .
واختلفوا إن كانت كافرة أو أمة ، فقال مالك : سواء كانت حرة أو أمة أو مسلمة أو كافرة يجب الحد . وقال : لا حد عليه إذا كانت أم المقذوف أمة أو كتابية ، وهو قياس قول إبراهيم النخعي ، الشافعي وأبي حنيفة .
واتفقوا أن القذف إذا كان بهذين المعنيين أنه إذا كان بلفظ صريح وجب الحد ، واختلفوا إن كان بتعريض ، فقال ، الشافعي وأبو حنيفة ، ، والثوري : لا حد في التعريض ، إلا أن وابن أبي ليلى أبا حنيفة يريان فيه التعزير ، وممن قال بقولهم من الصحابة والشافعي ، وقال ابن مسعود مالك وأصحابه : في التعريض الحد ، وهي مسألة وقعت في زمان عمر ، فشاور عمر فيها الصحابة ، فاختلفوا فيها عليه ، فرأى عمر فيها الحد .
وعمدة مالك أن الكناية قد تقوم بعرف العادة ، والاستعمال مقام النص الصريح ، وإن كان اللفظ فيها مستعملا في غير موضعه ( أعني : مقولا بالاستعارة ) .
وعمدة الجمهور أن الاحتمال الذي في الاسم المستعار شبهة ، ، والحق أن الكناية قد تقوم في مواضع مقام النص ، وقد تضعف في مواضع ، وذلك أنه إذا لم يكثر الاستعمال لها . والحدود تدرأ بالشبهات
والذي يندرئ به الحد عن القاذف أن يثبت زنى المقذوف بأربعة شهود بإجماع ، والشهود عند مالك إذا كانوا أقل من أربعة قذفة ، وعند غيره ليسوا بقذفة ، وإنما اختلف المذهب في الشهود الذين يشهدون على شهود الأصل .
والسبب في اختلافهم هل يشترط في نقل شهادة كل واحد منهم عدد شهود الأصل أم يكفي في ذلك اثنان على الأصل المعتبر فيما سوى القذف إذ كانوا ممن لا يستقل بهم نقل الشهادة من قبل العدد ؟
وأما الحد فالنظر فيه في جنسه وتوقيته ومسقطه .
أما جنسه ، فإنهم اتفقوا على أنه ثمانون جلدة للقاذف الحر لقوله تعالى : ( ثمانين جلدة ) . واختلفوا في ، كم حده ؟ فقال الجمهور من فقهاء الأمصار حده نصف حد الحر ، وذلك أربعون جلدة ، وروي ذلك عن الخلفاء الأربعة ، وعن العبد يقذف الحر ، وقالت طائفة : حده حد الحر ، وبه قال ابن عباس من الصحابة ، ابن مسعود وجماعة من فقهاء الأمصار : وعمر بن عبد العزيز ، أبو ثور والأوزاعي وداود وأصحابه من أهل الظاهر .
فعمدة الجمهور قياس حده في القذف على حده في الزنى . وأما أهل الظاهر فتمسكوا في ذلك بالعموم ولما أجمعوا أيضا أن حد الكتابي ثمانون ، فكان العبد أحرى بذلك .
وأما التوقيت فإنهم اتفقوا على أنه إذا قذف شخصا واحدا مرارا كثيرة ، فعليه حد واحد إذا لم يحد بواحد منها ، وأنه إذ قذف فحد ثم قذفه ثانية حد حدا ثانيا واختلفوا إذا قذف جماعة ، فقالت طائفة : ليس عليه إلا حد واحد جمعهم في القذف أو فرقهم ، وبه قال مالك ، وأبو حنيفة ، والثوري وأحمد [ ص: 754 ] وجماعة وقال قوم : بل عليه لكل واحد حد ، وبه قال ، الشافعي والليث ، وجماعة حتى روي عن أنه قال : إن قال إنسان : من دخل هذه الدار فهو زان جلد الحد لكل من دخلها ، وقالت طائفة : إن جمعهم في كلمة واحدة مثل أن يقول لهم : يا زناة ، فحد واحد ، وإن قال لكل واحد منهم : يا زاني فعليه لكل إنسان منهم حد . الحسن بن حيي
فعمدة من لم يوجب على قاذف الجماعة إلا حدا واحدا حديث أنس وغيره هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء ، فرفع ذلك إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - فلاعن بينهما ولم يحده أن لشريك ، وذلك إجماع من أهل العلم فيمن قذف زوجته برجل .
وعمدة من رأى أن الحد لكل واحد منهم أنه حق للآدميين ، وأنه لو عفا بعضهم ولم يعف الكل لم يسقط الحد .
وأما من فرق بين قذفهم في كلمة واحدة أو كلمات أو في مجلس واحد أو في مجالس ; فلأنه رأى أنه واجب أن يتعدد الحد بتعدد القذف ; لأنه إذا اجتمع تعدد المقذوف وتعدد القذف كان أوجب أن يتعدد الحد .
وأما سقوطه فإنهم اختلفوا في سقوطه بعفو القاذف ، فقال أبو حنيفة ، ، والثوري : لا يصح العفو ( أي : لا يسقط الحد ) ، وقال والأوزاعي : يصح العفو ( أي : يسقط الحد ) بلغ الإمام أو لم يبلغ ، وقال قوم : إن بلغ الإمام لم يجز العفو ، وإن لم يبلغه جاز العفو . واختلف قول الشافعي مالك في ذلك ، فمرة قال بقول ، ومرة قال : يجوز إذا لم يبلغ الإمام ، وإن بلغ لم يجز إلا أن يريد بذلك المقذوف الستر على نفسه ، وهو المشهور عنه . الشافعي
والسبب في اختلافهم هل هو حق لله ؟ أو حق للآدميين ، أو حق لكليهما ؟ فمن قال : حق لله لم يجز العفو كالزنى ، ومن قال : حق للآدميين أجاز العفو ، ومن قال : لكليهما وغلب حق الإمام إذا وصل إليه قال : بالفرق بين أن يصل الإمام أو لا يصل ، وقياسا على الأثر الوارد في السرقة .
وعمدة من رأى أنه حق للآدميين - وهو الأظهر - أن المقذوف إذا صدقه فيما قذفه به سقط عنه الحد . وأما من يقيم الحد فلا خلاف أن الإمام يقيمه في القذف .
واتفقوا على أنه يجب على القاذف مع الحد سقوط شهادته ما لم يتب . واختلفوا إذا تاب ، فقال مالك : تجوز شهادته ، وبه قال ، وقال الشافعي أبو حنيفة : لا تجوز شهادته أبدا .
والسبب في اختلافهم هل الاستثناء يعود إلى الجملة المتقدمة أو يعود إلى أقرب مذكور ، وذلك في قوله تعالى : ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا ) ، فمن قال : يعود إلى أقرب مذكور قال : التوبة ترفع الفسق ولا تقبل شهادته ، ومن رأى أن الاستثناء يتناول الأمرين جميعا قال : التوبة ترفع الفسق ورد الشهادة . وكون ارتفاع الفسق مع رد الشهادة أمرا غير مناسب في الشرع ( أي : خارج عن الأصول ) ; لأن الفسق متى ارتفع قبلت الشهادة .
واتفقوا على أن التوبة لا ترفع الحد .
وأما بماذا يثبت ؟ فإنهم اتفقوا على أنه يثبت بشاهدين عدلين حرين ذكرين .
[ ص: 755 ] واختلف في مذهب مالك : هل يثبت بشاهد ويمين وبشهادة النساء ؟ وهل تلزم في الدعوى فيه يمين ؟ وإن نكل فهل يحد بالنكول ويمين المدعي ؟ فهذه هي أصول هذا الباب التي تنبني عليه فروعه .
قال القاضي : وإن أنسأ الله في العمر فسنضع كتابا في الفروع على مذهب مرتبا ترتيبا صناعيا ، إذ كان المذهب المعمول به في هذه الجزيرة ، التي هي مالك بن أنس جزيرة الأندلس حتى يكون به القارئ مجتهدا في مذهب مالك ; لأن إحصاء جميع الروايات عندي شيء ينقطع العمر دونه .