204 - وكذلك قوله: " وإن من العلم لجهلا " .
فأما قولهم: إن السلف من الصحابة والتابعين لم ينقل عنهم أنهم اشتغلوا بالاجتهاد في الفروع.
فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه لم ينقل عنهم النهي عن ذلك، والزجر عنه، بل من تدبر اختلاف الصحابة في المسائل [ ص: 365 ] واحتجاجهم في ذلك عرف أنهم كانوا يرون القياس والاجتهاد في الفروع.
وقد روى أهل الحديث والنقل عنهم ذلك، واحتجاج بعضهم على بعض، وطلب الأشباه، ورد الفروع إلى الأصول.
وأما من كره ذلك فيحتمل أنه إنما كره ذلك إذا كان مع وجود النص من الكتاب والسنة .
وأما الكلام في أمر الدين، وما يرجع إلى الاعتقاد من طريق المعقول فلم ينقل عن أحد منهم، بل عدوه من البدع والمحدثات، وزجروا عنه غاية الزجر ونهوا عنه.
وجواب آخر: أن الحوادث للناس، والفتاوى في المعاملات ليس لها حصر ونهاية، وبالناس إليه حاجة عامة، فلو لم يجز الاجتهاد في الفروع، وطلب الأشبه بالنظر والاعتبار، ورد المسكوت عنه إلى المنصوص عليه بالأقيسة، لتعطلت الأحكام، وفسدت على الناس أمورهم، والتبس أمر المعاملات على الناس، ولا بد للعامي من مفت، وإذا لم يجد حكم الحادثة في الكتاب والسنة فلا بد من الرجوع إلى المستنبطات منهما، فوسع الله من هذا الأمر على الأمة، [ ص: 366 ] وجوز الاجتهاد، ورد الفروع إلى الأصول لهذا النوع من الضرورة، ومثل هذا لا يوجد في المعتقدات؛ لأنها محصورة معدودة، قد وردت النصوص فيها من الكتاب والسنة.
فإن الله أمر في كتابه وعلى لسان رسوله باعتقاد أشياء معلومة لا مزيد عليها ولا نقصان عنها، وقد أكملها بقوله: اليوم أكملت لكم دينكم فإذا كان قد أكمله وأتمه، وهذا المسلم قد اعتقد وسكن إليه، ووجد قرار القلب (عليه) ، فبماذا يحتاج إلى الرجوع إلى دلائل العقول وقضاياها، والله أغناه عنه بفضله، وجعل له المندوحة عنه لم يدخل في أمر يدخل عليه من الشبهة والإشكالات، ويوقعه في المهالك بالرجوع إلى الخواطر والمعقولات واتباع الآراء في قديم الدهر وحديثه، وإذا كان هذا النوع من العلم لطلب زيادة في الدين، فهل تكون الزيادة بعد الكمال إلا نقصانا، مثل زيادة الأعضاء والأصابع في اليدين والرجلين؛ فليتق امرؤ ربه، ولا يدخلن في دينه ما ليس منه، وليتمسك بآثار السلف والأئمة المرضية، وليكونن على هديهم وطريقهم، وليعض عليها بنواجذه، ولا يوقعن نفسه في مهلكة يضل فيها الدين، ويشتبه عليه الحق، والله حسيب أئمة الضلال الداعين إلى النار، ويوم القيامة لا ينصرون ". وهل نجا من نجا إلا باتباع سنن المرسلين، والأئمة الهادية من الأسلاف المتقدمين،
[ ص: 367 ]