الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال لنا الإمام أبو المظفر السمعاني: فصل ونشتغل الآن بالجواب عن قولهم فيما سبق .

[ ص: 215 ] إن أخبار الآحاد لا تقبل فيما طريقه العلم، وهذا رأس شغب المبتدعة في رد الأخبار،  وطلب الدليل من النظر والاعتبار ؛ فنقول وبالله التوفيق.

إن الخبر إذا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورواه الثقات والأئمة، وأسندوه خلفهم عن سلفهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتلقته الأمة بالقبول، فإنه يوجب العلم فيما سبيله العلم.

وهذا قول عامة أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السنة، وإنما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال، ولا بد من نقله بطريق التواتر لوقوع العلم به، شيء اخترعته القدرية والمعتزلة، وكان قصدهم منه رد الأخبار، وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم علم في العلم وقدم ثابت، ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول، ولو أنصف الفرق من الأمة لأقروا بأن خبر الواحد يوجب العلم، فإنهم تراهم مع اختلافهم في [ ص: 216 ] طرائقهم وعقائدهم يستدل كل فريق منهم على صحة ما يذهب إليه بالخبر الواحد، ترى أصحاب القدر يستدلون بقوله:



188 - " كل مولود يولد على الفطرة   ". وبقوله.

189 - " خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم ".  وترى أهل الإرجاء يستدلون بقوله.

190 - " من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، قال: وإن زنى وإن سرق، قال: نعم، وإن زنى وإن سرق ".  

وترى الرافضة يستدلون بقوله.

191 - " يجاء بقوم من أصحابي فيسلك بهم ذات الشمال، فأقول أصيحابي أصيحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم ".  وترى الخوارج يستدلون بقوله.

192 - " سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر "   .

وبقوله.

193 - " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ".  

[ ص: 217 ] إلى غير هذا من الأحاديث التي يستدل لها أهل الفرق. ومشهور ومعلوم استدلال أهل السنة بالأحاديث. ورجوعهم إليها، فهذا إجماع منهم على القول بأخبار الآحاد. وكذلك أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله، وفي مسائل القدر، والرؤية، وأصل الإيمان، والشفاعة والحوض، وإخراج الموحدين المذنبين من النار، وفي صفة الجنة والنار، وفي الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وفي فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم - ومناقب أصحابه، وأخبار الأنبياء المتقدمين عليهم السلام، وكذلك أخبار الرقائق والعظات، وما أشبه ذلك مما يكثر عده وذكره، وهذه الأشياء كلها علمية لا عملية، وإنما تروى لوقوع علم السامع بها.

فإذا قلنا: إن خبر الواحد لا يجوز أن يوجب العلم حملنا أمر الأمة في نقل الأخبار على الخطأ، وجعلناهم لاغين مشتغلين بما لا يفيد أحدا شيئا، ولا ينفعه، ويصير كأنهم قد دونوا في أمور ما لا يجوز الرجوع إليه والاعتماد عليه، وربما يرتقي هذا القول إلى أعظم من هذا، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدى هذا الدين إلى الواحد ، فالواحد من أصحابه ليؤدوه إلى الأمة، ونقلوا عنه، فإذا لم يقبل قول الراوي لأنه واحد رجع هذا العيب إلى المؤدي نعوذ بالله من هذا القول الشنيع، والاعتقاد القبيح.

ويدل عليه، أن الأمر مشتهر في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث الرسل إلى الملوك:

[ ص: 218 ] 194 - بعث إلى كسرى.

195 - وقيصر.

196 - وملك الإسكندرية.

197 - وإلى أكيدر دومة ، وغيرهم من ملوك الأطراف، وكتب إليهم كتبا على ما عرف، ونقل واشتهر .

وإنما بعث واحدا واحدا، ودعاهم إلى الله وإلى التصديق برسالته لإلزام الحجة، وقطع العذر لقوله تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل .

وهذه المعاني لا تحصل إلا بعد وقوع العلم بمن أرسل إليه بالإرسال والمرسل، وأن الكتاب من قبله ، والدعوة منه، وقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الناس كافة، وكثير من الأنبياء بعثوا إلى قوم دون قوم.

[ ص: 219 ] وإنما قصد بإرسال الرسل إلى هؤلاء الملوك والكتاب إليهم، بث الدعوة في جميع الممالك، ودعا الناس عامة إلى دينه على حسب ما أمره الله بذلك، فلو لم يقع العلم بخبر الواحد في أمور الدين لم يقتصر - صلى الله عليه وسلم - على إرسال الواحد من أصحابه في هذا الأمر، وكذلك في أمور كثيرة اكتفى - صلى الله عليه وسلم - بإرسال الواحد من أصحابه منها.

198 - أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث عليا لينادي في موسم الحج بمنى، ألا لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد فمدته إلى أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة.  

ولا بد في هذه الأشياء من وقوع العلم للقوم الذين كانوا ينادونهم حتى إن أقدموا على شيء من هذا بعد سماع هذا القول كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبسوط العذر في قتالهم وقتلهم .

199 - وكذلك بعث معاذا إلى اليمن ليدعوهم إلى الإسلام ويعلمهم إذا أجابوا شرائعهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية