الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في بيان أن التكليف: إيقاع الكلفة على المكلف

والكلفة: المشقة
 

والتكليف نوعان: تكليف ما هو معهود ممكن، وتكليف ما هو غير معهود ولا ممكن. فأما الذي لا يمكن ولا يعهد مثله، فكتكليف المكلف أن يرد الشيء الماضي كرد أمس الذاهب، وكتكليف الأعمى أن يبصر، والأصم أن يسمع، والأبكم أن يتكلم ونحوها.

وتكليفه المعهود الممكن نوعان:

أحدهما: تكليف المكلف ما يطيقه، ويصبر على ممارسته، كتكليف العبادات، والأفعال التي يطيقها المكلف.

والثاني: تكليف المكلف ما لا يطيقه، ولا يمكنه الصبر على ممارسته كتكليف المكلف: أن يحمل ثقلا لا يطيق حمله. ثم هذه الأنواع الثلاثة تنقسم قسمين:

أحدهما: تكليف المخلوق المخلوق.

والثاني: تكليف الخالق المخلوق. وهي كلها من الله عز وجل عدل وفضل، لأنه إذا كلفه ما يطيقه فهو فضل، وإذا كلفه ما لا يطيقه فهو عدل .

فأما رد الغائب فلا يكون من الله عز وجل تكليفا؛ لأنه إذا كلف العبد هذا النوع صيره مطيقا له قادرا عليه. ألا ترى أنه عز وجل حيث كلف عيسى ابن مريم عليهما السلام إحياء الموتى، وإبراء الأكمه كيف صيره [ ص: 129 ] قادرا عليه مطيقا له. ولما كلف أيوب البلاء لم يسلبه طاقته وقدرته، وأما المخلوق فتكليفه غيره ما لا يطيقه جور منه، ومن الدليل على أن الله تعالى يكلف عبده ما لا يطيقه، كما يكلفه ما يطيقه .

[ ص: 130 ] قوله تعالى: إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال الآية فبان بهذا أن حمل الأمانة ثقيل لا يطاق، وأن السماوات والأرض والجبال، التي تطيق حمل الأثقال لم يطقن حملها، وحملها الإنسان بجهله إذ لم يعلم أنه لا يطيق حملها فدل على أن الله تعالى يكلف العبد ما لا يطيقه.

فإن قيل: المراد بقوله: فأبين أن يحملنها يعني: أن يخن فيها، [ ص: 131 ] وحملها الإنسان، أي خانها واستدلوا بقول الشاعر:


(إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أفرحتك الودائع)

أي لم تزل تؤدي أمانة وتخون أخرى .

فالجواب: أن الخيانة في الأمانة، غير عدم الطاقة بحملها وأدائها على وجهها؛ لأن الخائن لو أطاق أداءها على وجهها لم يخن فيها، فلما غلبته نفسه في أدائها على وجهها، ودعته إلى الخيانة فيها ولم يمكنه أن يجاهد نفسه في أدائها على وجهها، وأمره الله تعالى بأدائها على وجهها صح أنه مكلف ما لا يطيقه.

ومما يؤكد هذا أن الله تعالى قال: ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما . فدل ذلك على أن الله تعالى يكلف عبده ما يشاء. ثم يوفق من [ ص: 132 ] يشاء من عباده، ويقويه، ويطوقه حمله، ويخذل من يشاء منهم، ويضعفه ولا يطوقه ما يكلفه. وكل ذلك عدل منه سبحانه وتعالى، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

والدليل عليه أيضا: قوله تعالى: وهو القاهر فوق عباده وليس القهر إلا نفس تكليف ما لا يطاق. لأن المقهور لو أطاق حمل القهر لم يصر مقهورا. فدل أن القاهر هو الذي يقهر غيره، ويكلفه في قهره ما لا يطيقه .

والدليل عليه قوله: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ؛ لأن الناسي لا يطيق ترك نسيانه فهو آخذ بما يأتيه ناسيا، وهو لا يطيق تركه، وكذلك تكليفه فعل النسيان تكليف لما لا يطيقه.

وكذلك قوله: ولا تحمل علينا إصرا . أي ثقلا. وكذلك [ ص: 133 ] قوله: ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به . فدل هذا كله على أن الله تعالى يكلف العبد ما لا يطيقه، لأنه لو لم يكن هكذا لم يكن لدعائهم إياه أن لا يحمل عليهم ثقلا لا يطيقونه، ولا يحملهم ما لا يطيقونه معنى. ولو أطاقوا حمل ذلك ما سألوا الله تعالى دفعه عنهم وإزالته .

فإن قيل: إن الله تعالى قال: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها أي: طاقتها. فدل أنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يطيقه.

قيل: قوله: نفسا ليس بعموم، بل هو خصوص لأن النكرة في النفي قد تعم الجنس، وقد لا تعم الجنس. ألا ترى أنك إذا قلت: لم أر رجلا، فقد نفيت رؤية رجل واحد من الرجال. كذلك قوله: [ ص: 134 ] لا يكلف الله نفسا يريد نفسا من الأنفس إلا وسعها. أي أن الله تعالى لا يكلف ما شاء من الأنفس إلا وسعها، ويكلف ما شاء منها فوق وسعها. والله تعالى يكلف الإنسان وغيره ما لا يطيقه، كالإنسان الضعيف الجسم، والصبي تصيبه علة في بدنه يضعف عن حملها، ولا يطيقها والله كلفه ذلك .

فإن قيل: تكليف ما لا يطاق جور، والجور لا يجوز على الله تعالى. فالجواب: أن هذا لا يتصور في صفات الله تعالى وأفعاله، ولكنه يتصور في صفات المخلوقين وأفعالهم، لأن الله تعالى إذا عاقب عبدا على معصية، فالعبد لا يطيق عقابه، ثم ذلك العقاب وإن عظم ولم يطقه المعاقب عدل من الله تعالى، كما أن ثوابه فضل. إذ لا يشبه الخالق المخلوق في عقابه، كما لا يشبهه في ثوابه. كذلك تكليفه العبد ما لا يطيقه عدل منه، كما أن تكليفه ما يطيقه فضل منه.

[ ص: 135 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية