الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
(فصل)

أخبرنا أبو المظفر السمعاني قال: والأصل الذي يؤسسه المتكلمون، والطرائق التي يجعلونها قاعدة علومهم مسألة العرض والجوهر  وإثباتهما وأنهم قالوا: إن الأشياء لا تخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يكون جسما أو عرضا أو جوهرا. فالجسم: ما اجتمع من الافتراق. والجوهر: ما احتمل الأعراض. والعرض: ما لا يقوم بنفسه، إنما يقوم بغيره.

[ ص: 142 ] وجعلوا الروح من الأعراض، وردوا أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خلق الروح قبل الجسد، لأنه لم يوافق نظرهم وأصولهم .

82 - وردوا خبره - صلى الله عليه وسلم - في خلق العقل قبل الخلق. وإنما ردوا هذه الأخبار لأن [ ص: 143 ] العقل عندهم عرض، والعرض: لا يقوم بنفسه، فردوا الأخبار بهذا الطريق. وكذلك ردوا الخبر الذي روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

83 - أن الموت يذبح على الصراط؛ لأن الموت عرض لا ينفرد بنفسه، فهذا أصلهم الثاني الذي أدى إلى رد الأخبار الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومثل هذا كثير.

ولهذا قال بعض السلف: إن أهل الكلام أعداء الدين ؛ لأن اعتمادهم على حدسهم وظنونهم، وما يؤدي إليه نظرهم وفكرهم، ثم يعرضون عليه الأحاديث فما وافقه قبلوه وما خالفه ردوه .

وأما أهل السنة سلمهم الله، فإنهم يتمسكون بما نطق به الكتاب ووردت به السنة، ويحتجون له بالحجج الواضحة، والدلائل الصحيحة على حسب ما أذن فيه الشرع، وورد به السمع، ولا يدخلون بآرائهم في صفات الله تعالى، ولا في غيرها من أمور الدين، وعلى هذا وجدوا سلفهم وأئمتهم وقد قال الله تعالى: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا . وقال [ ص: 144 ] أيضا: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته

84 - وقال - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الوداع، وفي مقامات له شتى، وبحضرة عامة أصحابه: " ألا هل بلغت ".  

وكان فيما أنزل إليه وأمر بتبليغه، أمر التوحيد وبيانه بطريقه، فلم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا من أمور الدين وقواعده وأصوله وشرائعه، إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه، ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه، إذ لو أخر لكان قد كلفهم ما لا سبيل لهم إليه .

وإذا كان الأمر على ما قلنا، وقد علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدعهم في هذه الأمور إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر، وذكر ماهيتها. ولا يمكن لأحد من الناس أن يروي في ذلك عنه، ولا عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - من هذا النمط حرفا واحدا فما فوقه. لا في طريق تواتر، ولا آحاد. فعلمنا أنهم ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء، وسلكوا غير طريقهم، وأن هذا طريق محدث مخترع لم يكن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه. وسلوكه يعود عليهم بالطعن والقدح، ونسبتهم إلى قلة العلم في الدين واشتباه الطريق عليهم. فإياك - رحمك الله - أن تشتغل بكلامهم، ولا تغتر بكثرة مقالاتهم فإنها [ ص: 145 ] سريعة التهافت كثيرة التناقض، وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا ولخصومهم عليه كلام يوازيه أو يقاربه.

فكل بكل معارض، وبعض ببعض مقابل، وإنما يكون تقدم الواحد منهم وفلجه على خصمه بقدر حظه من البيان، وحذقه في صناعة الجدل على أصول لهم، ومناقضات على أقوال حفظوها عليهم، فهم يطالبونهم بقودها ، فمن تقاعد منهم عن ذلك سموه من طريق الجدل منقطعا، وحكموا بالفلج لخصمه. والجدل لا يتبين به حق ولا يقوم به حجة، ولو أنصفوا في المحاجة لزم الواحد منهم أن ينتقل عن مذهبه كل يوم كذا وكذا مرة، لما يورد عليه من الإلزامات، وتراهم ينقطعون في الحجاج ولا ينتقلون، وهذا هو الدليل على أنه ليس قصدهم طلب الحق. إنما طريقهم إتباع الهوى فحسب.

ومن قبيح ما يلزمهم في اعتقادهم، أنا إذا بينا الحق على ما قالوه، وأوجبنا طلب الدين بالطريق الذي ذكروه، وجب من ذلك تكفير العوام بأجمعهم لأنهم لا يعرفون إلا الاتباع المجرد. ولو عرض عليهم طريق المتكلمين في معرفة الله تعالى، ما فهمه أكثرهم، فضلا من أن يصير فيه صاحب استدلال وحجاج، وإنما غاية توحيدهم التزام ما وجدوا عليه سلفهم وأئمتهم في عقائد الدين، والعض عليها بالنواجذ، والمواظبة على وظائف العبادات، وملازمة الأذكار بقلوب سليمة طاهرة [ ص: 146 ] عن الشبهات والشكوك. تراهم لا يحيدون عما اعتقدوه، وإن قطعوا إربا إربا.

فهنيئا لهم هذا اليقين وطوبى لهم هذه السلامة، فإذا كفروا هؤلاء وهو السواد الأعظم وجمهور الأمة، فما هذا إلا طي بساط الإسلام، وهدم منار الدين وأركان الشريعة، وإلحاق هذه الدار بدار الكفر ، وجعل أهليها بمنزلة واحدة، ومتى يوجد في الألوف من المسلمين على الشرط الذي يراعونه بتصحيح معرفة الله تعالى؟ أو لا يجد مسلم ألم هذه المقالة القبيحة الشنيعة؟ ، والله تعالى يكفي أهل السنة والجماعة شرهم ويرد كيدهم في نحرهم، ويلحق بهم عاقبة مكرهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية