قال أهل السنة: الرحمن على العرش استوى واجب، والخوض فيه بالتأويل بدعة. الإيمان بقوله تعالى:
قالوا: وهو من الآيات المتشابهات التي ذكرها الله تعالى في كتابه ورد علم تأويلها إلى نفسه، وقال: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا فأوجب الإيمان بقوله الرحمن على العرش استوى وبالآيات التي تضارع هذه الآية، ومدح الراسخين في العلم بأنهم يؤمنون بمثل هذه الآيات، ولا يخوضون في علم كيفيتها، ولهذا قال رحمة الله عليه حين سئل، عن قوله مالك بن أنس الرحمن على العرش استوى قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، والاستواء في كلام العرب تأتي لمعان.
تقول العرب: استوى الشيء إذا كان معوجا فذهب عوجه، تقول: سويته أي: قومته فاستقام، وهذا المعنى لا يجوز على الله تعالى.
[ ص: 258 ] ومنه الاستواء بمعنى المماثلة والمشابهة. يقال استوى فلان وفلان في هذا الأمر أي: تماثلا وتساويا قال الله تعالى: لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أي لا يتساوى هذان الفريقان، وهذا أيضا لا يجوز في حق الله تعالى.
ومنه الاستواء بمعنى القصد، ويستعمل مع إلى، يقال: استويت إلى هذا الأمر، أي قصدته. قال الله تعالى: ثم استوى إلى السماء وهي دخان أي قصدها، ولا يقال: استوى عليه بمعنى قصده، فمن خالف موضوع اللغة فقد خالف طريقة العرب، والقرآن عربي، ولو كان الاستواء على العرش بمعنى الاستواء إلى العرش لقال تعالى: إلى العرش استوى.
قال أهل السنة: الاستواء هو العلو: قال الله تعالى فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك وليس للاستواء في كلام العرب معنى إلا ما ذكرنا، وإذا لم يجز الأوجه الثلاثة لم يبق إلا الاستواء الذي هو معلوم كونه مجهول كيفيته، واستواء نوح على السفينة معلوم كونه معلوم كيفيته [ ص: 259 ] لأنه صفة له، وصفات المخلوقين معلومة كيفيتها. واستواء الله على العرش غير معلوم كيفيته ؛ لأن المخلوق لا يعلم كيفية صفات الخالق لأنه غيب ولا يعلم الغيب إلا الله، ولأن الخالق إذا لم يشبه ذاته ذات المخلوق لم يشبه صفاته صفات المخلوق، فثبت أن الاستواء معلوم، والعلم بكيفيته معدوم فعلمه موكول إلى الله تعالى، كما قال: وما يعلم تأويله إلا الله .
وكذلك القول فيما يضارع هذه الصفات كقوله تعالى: لما خلقت بيدي وقوله: بل يداه مبسوطتان وقوله: ويبقى وجه ربك وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
224 - " حتى يضع الجبار فيها قدمه " وقوله.
225 - " إن أحدكم يأتي بصدقته فيضعها في كف الرحمن " وقوله.
226 - " يضع السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع ". وأمثال هذه الأحاديث، فإذا تدبره متدبر، ولم يتعصب بان له صحة ذلك، وأن الإيمان واجب، وأن البحث عن كيفية ذلك باطل. وهذا لأن اليد في كلام العرب تأتي بمعنى القوة يقال لفلان يد في هذا الأمر [ ص: 260 ] أي: قوة ، وهذا المعنى لا يجوز في قوله: لما خلقت بيدي وقوله بل يداه مبسوطتان لأنه لا يقال: لله قوتان. ومنها اليد بمعنى النعمة والصنيعة يقال: لفلان عند فلان يد أي: نعمة وصنيعة، وأيديت، عن فلان يدا أي: أسديت إليه نعمة، ويديت عليه، أي: أنعمت عليه قال .
(يديت على ابن حسحاس بن وهب بأسفل ذي الجذاة يد الكريم)
وهذا المعنى أيضا لا يجوز في الآية؛ لأن تثنية اليد تبطله، ولا يقال لله نعمتان، وقد تأتي اليد بمعنى النصرة والتعاون.227 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وهم يد على من سواهم ".
أي: يعاون بعضهم بعضا على من سواهم من الكفار، وهذا أيضا لا يجوز لأنه لا يجوز أن يقال: لما خلقت بنصرتي، وقد تكون اليد بمعنى: الملك والتصرف. يقال: هذه الدار في يد فلان، أي [ ص: 261 ] في تصرفه وملكه، وهذا أيضا لا يجوز لتثنية اليد، وليس لله تعالى ملكان وتصرفان.
ومنها اليد التي هي معروفة فإذا لم تحتمل الأوجه التي ذكرنا لم يبق إلا اليد المعلوم كونها، والمجهولة كيفيتها، ونحن نعلم يد المخلوق وكيفيتها لأنا نشاهدها ونعاينها فنعرفها، ونعلم أحوالها، ولا نعلم كيفية يد الله تعالى، لأنها لا تشبه يد المخلوق، وعلم كيفيتها علم الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى، بل نعلم كونها معلومة لقوله تعالى، وذكره لها فقط، ولا نعلم كيفية ذلك وتأويلها، وهكذا قوله: ويبقى وجه ربك للوجه في كلام العرب معان منها الجاه والقدر. يقال: لفلان عند الناس وجه حسن، أي: جاه وقدر. وهذا المعنى لا يجوز في هذا الموضع لأنه لا يجوز أن يقال: لله تعالى جاه وقدر عند غيره، فلا يقال: ويبقى جاه ربك، وقدر ربك.
وقد يجيء وجه الشيء بمعنى أوله. قال الله تعالى: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار أي: أول النهار، وهذا أيضا لا يجوز ها هنا.
[ ص: 262 ] ومنها الوجه بمعنى الجهة يقال: أقصد هذا الوجه، أي هذه الجهة. وهذا أيضا لا يجوز في هذا الموضع، ومنه الوجه المعروف، فإذا لم يجز حمل الوجه على الأوجه التي ذكرناها بقي أن يقال: هو الوجه الذي تعرفه العرب، وكونه معلوما بقوله تعالى، وكيفيته مجهولة. وكذلك قوله.
228 - " حتى يضع الجبار فيها قدمه ".
وقوله:
229 - " حتى يضعه في كف الرحمن " وللقدم معان، وللكف معان، وليس يحتمل الحديث شيئا من ذلك إلا ما هو المعروف في كلام العرب فهو معلوم بالحديث مجهول الكيفية.
وكذلك القول في الأصبع، والأصبع في كلام العرب تقع على النعمة والأثر الحسن ... وهذا المعنى لا يجوز في هذا الحديث فكون الأصبع معلوما بقوله - صلى الله عليه وسلم -، وكيفيته مجهولة، وكذلك القول في جميع الصفات يجب الإيمان به، ويترك الخوض في تأويله، وإدراك كيفيته.