الركن الثاني
وهو الإمساك
وأجمعوا على أنه يجب على الصائم لقوله - تعالى - : ( الإمساك زمان الصوم عن المطعوم والمشروب والجماع فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) .
واختلفوا من ذلك في مسائل : منها مسكوت عنها ، ومنها منطوق بها :
أما المسكوت عنها :
إحداها : فيما يرد الجوف مما ليس بمغذ ، وفيما يرد الجوف من غير منفذ الطعام والشراب مثل الحقنة ، وفيما يرد باطن سائر الأعضاء ولا يرد الجوف مثل أن يرد الدماغ ولا يرد المعدة .
وسبب اختلافهم في هذه هو : قياس المغذي على غير المغذي ، وذلك أن المنطوق به إنما هو المغذي . فمن رأى أن المقصود بالصوم معنى معقول لم يلحق المغذي بغير المغذي ، ومن رأى أنها عبادة غير معقولة ، وأن المقصود منها إنما هو الإمساك فقط عما يرد الجوف سوى بين المغذي وغير المغذي .
وتحصيل مذهب مالك أنه يجب الإمساك عن ما يصل إلى الحلق من أي المنافذ وصل ، مغذيا كان أو غير مغذ .
وأما ما عدا المأكول والمشروب من المفطرات فكلهم يقولون : إن فقد أفطر وإن أمذى فلم يفطر إلا من قبل فأمنى مالك .
واختلفوا في ، فمنهم من أجازها ، ومنهم من كرهها للشاب وأجازها للشيخ ومنهم من كرهها على الإطلاق . القبلة للصائم
فمن رخص فيها فلما روي من حديث عائشة : " وأم سلمة " . ومن كرهها فلما يدعوا إليه من الوقاع . وشذ قوم فقالوا : القبلة تفطر ، واحتجوا لذلك بما روي عن أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يقبل وهو صائم ميمونة بنت سعد قالت : " سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القبلة للصائم فقال : " أفطرا جميعا " . خرج هذا الأثر ولكن ضعفه . الطحاوي
وأما ما يقع من هذه من قبل الغلبة ومن قبل النسيان : فالكلام فيه عند الكلام في المفطرات وأحكامها .
[ ص: 243 ] وأما ما اختلفوا فيه مما هو منطوق به : فالحجامة والقيء .
أما فإن فيها ثلاثة مذاهب : قوم قالوا : إنها تفطر وأن الإمساك عنها واجب ، وبه قال الحجامة أحمد وداود والأوزاعي . وإسحاق بن راهويه
وقوم قالوا : إنها مكروهة للصائم وليست تفطر ، وبه قال مالك والشافعي . والثوري
وقوم قالوا : إنها غير مكروهة ولا مفطرة ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه .
وسبب اختلافهم : تعارض الآثار الواردة في ذلك ، وذلك أنه ورد في ذلك حديثان :
أحدهما : ما روي من طريق ومن طريق ثوبان أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " رافع بن خديج " . وحديث أفطر الحاجم والمحجوم هذا كان يصححه ثوبان أحمد .
والحديث الثاني : حديث عكرمة عن : " ابن عباس " . وحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم هذا صحيح . ابن عباس
فذهب العلماء في هذين الحديثين ثلاثة مذاهب :
أحدها : مذهب الترجيح .
والثاني : مذهب الجمع .
والثالث : مذهب الإسقاط عند التعارض والرجوع إلى البراءة الأصلية إذا لم يعلم الناسخ من المنسوخ .
فمن ذهب مذهب الترجيح قال بحديث ، وذلك أن هذا موجب حكما ، وحديث ثوبان رافعه ، والموجب مرجح عند كثير من العلماء على الرافع لأن الحكم إذا ثبت بطريق يوجب العمل لم يرتفع إلا بطريق يوجب العمل برفعه ، وحديث ابن عباس قد وجب العمل به ، وحديث ثوبان يحتمل أن يكون ناسخا ويحتمل أن يكون منسوخا ، وذلك شك ، والشك لا يوجب عملا ولا يرفع العلم الموجب للعمل ، وهذا على طريقة من لا يرى الشك مؤثرا في العلم . ابن عباس
ومن رام الجمع بينهما حمل حديث النهي على الكراهية وحديث الاحتجام على الحظر .
ومن أسقطهما للتعارض قال بإباحة الاحتجام للصائم .
وأما : فإن جمهور الفقهاء على أن من ذرعه القيء فليس بمفطر ، إلا ربيعة فإنه قال : إنه مفطر ، وجمهورهم أيضا على أنه من استقاء فقاء فإنه مفطر إلا طاوسا . القيء
وسبب اختلافهم : ما يتوهم من التعارض بين الأحاديث الواردة في هذه المسألة ، واختلافهم أيضا في تصحيحها ، وذلك أنه ورد في هذا الباب حديثان :
أحدهما : حديث : " أبي الدرداء معدان : فلقيت في ثوبان مسجد دمشق فقلت له : إن حدثني " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر ، قال : صدق أنا صببت له وضوءه أبا الدرداء " وحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر " قال هذا صححه ثوبان الترمذي .
والآخر : حديث خرجه أبي هريرة الترمذي وأبو داود أيضا أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : " " . وروي موقوفا عن من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء وإن استقاء فعليه القضاء . ابن عمر
[ ص: 244 ] فمن لم يصح عنده الأثران كلاهما قال : ليس فيه فطر أصلا . ومن أخذ بظاهر حديث ورجحه على حديث ثوبان أوجب الفطر من القيء بإطلاق . ولم يفرق بين أن يستقيء أو لا يستقيء . ومن جمع بين الحديثين وقال حديث أبي هريرة مجمل وحديث ثوبان مفسر ، والواجب حمل المجمل على المفسر فرق بين القيء والاستقاءة ، وهو الذي عليه الجمهور . أبي هريرة