الفصل السادس
في جواز المهادنة
فأما هل تجوز المهادنة ؟ فإن قوما أجازوها ابتداء من غير سبب إذا رأى ذلك الإمام مصلحة للمسلمين . وقوم لم يجيزوها إلا لمكان الضرورة الداعية لأهل الإسلام من فتنة أو غير ذلك ، إما بشيء يأخذونه منهم [ ص: 318 ] لا على حكم الجزية إذ كانت الجزية إنما شرطها أن تؤخذ منهم وهم بحيث تنفذ عليهم أحكام المسلمين ، وإما بلا شيء يأخذونه منهم . وكان يجيز أن يصالح الإمام الكفار على شيء يدفعه المسلمون إلى الكفار إذا دعت إلى ذلك ضرورة : فتنة أو غير ذلك من الضرورات . وقال الأوزاعي : لا يعطي المسلمون الكفار شيئا إلا أن يخافوا أن يصطلموا لكثرة العدو وقلتهم ، أو لمحنة نزلت بهم . الشافعي
وممن قال بإجازة الصلح إذا رأى الإمام ذلك مصلحة : مالك والشافعي وأبو حنيفة ، إلا أن لا يجوز عنده الصلح لأكثر من المدة التي صالح عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكفار عام الحديبية . الشافعي
وسبب اختلافهم في جواز الصلح من غير ضرورة : معارضة ظاهر قوله - تعالى - : ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) وقوله - تعالى - : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) لقوله - تعالى - : ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ) .
فمن رأى أن آية الأمر بالقتال حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ناسخة لآية الصلح قال : لا يجوز الصلح إلا من ضرورة .
ومن رأى أن آية الصلح مخصصة لتلك قال : الصلح جائز إذا رأى ذلك الإمام ، وعضد تأويله بفعله ذلك - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك أن صلحه - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية لم يكن لموضع الضرورة .
وأما فلما كان الأصل عنده الأمر بالقتال حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ، وكان هذا مخصصا عنده بفعله - عليه الصلاة والسلام - عام الحديبية لم ير أن يزاد على المدة التي صالح عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد اختلف في هذه المدة ، فقيل : كانت أربع سنين ، وقيل : ثلاثا ، وقيل : عشر سنين ، وبذلك قال الشافعي . الشافعي
وأما من أجاز أن يصالح المسلمون المشركين بأن يعطي لهم المسلمون شيئا إذا دعت إلى ذلك ضرورة : فتنة أو غيرها ، فمصيرا إلى ما روي : " أنه كان - عليه الصلاة والسلام - قد هم أن يعطي بعض ثمر المدينة لبعض الكفار الذين كانوا في جملة الأحزاب لتخبيبهم ، فلم يوافقه على القدر الذي كان سمح له به من ثمر المدينة حتى أفاء الله بنصره " .
وأما من لم يجز ذلك إلا أن يخاف المسلمون أن يصطلموا فقياسا على إجماعهم على جواز فداء أسارى المسلمين ، لأن المسلمين إذا صاروا في هذا الحد فهم بمنزلة الأسارى .