الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
172 - فيكون هذا معنى قول نبي الله -صلى الله عليه وسلم- في الرجل يكثر الصلاة والصيام: " إنما يجازى على قدر عقله ". وقال بعضهم: العقل مدبر يدبر لصاحبه أمر دنياه وعقباه، فأول تدبيره الإشارة إلى المدبر الصانع، (ثم) إلى معرفة النفس، ثم يشير إلى صاحبه بالخضوع والطاعة لله، والتسليم لأمره، والموافقة له، وهذا معنى قولهم: العاقل من عقل عن الله أمره ونهيه. وقال بعضهم: العقل حجة الله على جميع الخلق، لأنه سبب التكليف،  إلا أن صاحبه لا يستغني عن التوفيق في كل وقت. ونفس العقل بالتوفيق كان، والعقل محتاج في كل وقت إلى توفيق جديد؛ تفضلا من الله تعالى، ولو لم يكن كذلك، لكان العقلاء مستغنين عن الله بالعقل، فيرتفع عنهم الخوف والرجاء، ويصيرون آمنين من الخذلان، وهذا تجاوز عن درجة العبودية وتعد عنها، [ ص: 320 ] ومحال من الأمر؛ إذ ليس من الحكمة أن ينزل الله أحدا غير منزلته، فإذا أغنى عبيده عن نفسه فقد أنزلهم غير منزلتهم، وجاوز بهم حدودهم، ولو كان هذا هكذا لاستوى الخلق والخالق في معنى من معاني الربوبية، والله -تعالى- ليس كمثله شيء في جميع المعاني.

وقال بعضهم: العقل على ثلاثة أوجه:  عقل مولود مطبوع، وهو عقل ابن آدم الذي به فضل على أهل الأرض، وهو محل التكليف والأمر والنهي، وبه يكون التدبير والتمييز.

والعقل الثاني: عقل التأييد، الذي يكون مع الإيمان معا، وهو عقل الأنبياء والصديقين، وذلك تفضل من الله تعالى.

والعقل الثالث: هو عقل التجارب والعبر، وذلك ما يأخذه الناس بعضهم من بعض، ومن هذا قول من قال: ملاقاة الناس تلقيح العقول. وقال بعض أهل المعرفة: مقدار العقل في المعرفة كمقدار الإبرة عند ديباج أو خز، فإنه لا يمكن لبس ديباج أو خز، إلا أن يخاط بالإبرة، فإذا خيط بالإبرة فلا حاجة لها إلى الإبرة. كذلك تضبط المعرفة بالعقل، لا أن المعرفة تحصل من العقل، أو تثبت به.

واعلم: أن فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل؛ فإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الاتباع والمأثور تبعا للمعقول، وأما أهل السنة؛ فقالوا: الأصل في الدين الاتباع، والمعقول تبع،  ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي، وعن الأنبياء، ولبطل معنى الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء، ولو كان الدين بني على المعقول لجاز للمؤمنين أن [ ص: 321 ] لا يقبلوا شيئا حتى يعقلوا.

ونحن إذا تدبرنا عامة ما جاء في أمر الدين من ذكر صفات الله، وما تعبد الناس به من اعتقاده، وكذلك ما ظهر بين المسلمين، وتداولوه بينهم، ونقلوه عن سلفهم، إلى أن أسندوه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ذكر عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، والحوض، والميزان، والصراط، وصفات الجنة، وصفات النار، وتخليد الفريقين فيهما، أمور لا ندرك حقائقها بعقولنا، وإنما ورد الأمر بقبولها والإيمان بها، فإذا سمعنا شيئا من أمور الدين، وعقلناه، وفهمناه، فلله الحمد في ذلك والشكر، ومنه التوفيق، وما لم يمكنا إدراكه (وفهمه) ولم تبلغه عقولنا آمنا به، وصدقناه، واعتقدنا أن هذا من قبل ربوبيته وقدرته، واكتفينا في ذلك بعلمه ومشيئته، وقال الله -تعالى- في مثل هذا: ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ، وقال تعالى: ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ، ثم نقول لهذا القائل الذي يقول: بني ديننا على العقل، وأمرنا باتباعه: أخبرنا إذا أتاك أمر من الله يخالف عقلك فبأيهما تأخذ؟ بالذي تعقل، أو بالذي تؤمر؟ فإن قال: بالذي أعقل، فقد أخطأ، وترك سبيل الإسلام، وإن قال: (آخذ) بالذي جاء من عند الله، فقد ترك قوله: " وإنما علينا أن [ ص: 322 ] نقبل ما عقلناه إيمانا وتصديقا، وما لم نعقله قبلناه استسلاما وتسليما، وهذا معنى قول القائل من أهل السنة: " إن الإسلام قنطرة لا تعبر إلا بالتسليم " .

فنسأل الله التوفيق فيه، والثبات عليه، وأن يتوفانا على ملة رسوله -صلى الله عليه وسلم- بمنه وفضله ".

التالي السابق


الخدمات العلمية