الباب الثالث  
فيما يكون به القضاء   
والقضاء يكون بأربع : بالشهادة ، وباليمين ، وبالنكول ، وبالإقرار ، أو بما تركب من هذه ففي هذا الباب أربعة فصول .  
 [ ص: 770 ] الفصل الأول في الشهادة .  
والنظر في الشهود في ثلاثة أشياء : في الصفة ، والجنس ، والعدد .  
[ صفات الشهود ]  
فأما عدد  الصفات المعتبرة في قبول الشاهد   بالجملة فهي خمسة : العدالة ، والبلوغ ، والإسلام ، والحرية ، ونفي التهمة . وهذه منها متفق عليها ، ومنها مختلف فيها .  
1 - أما العدالة ، فإن المسلمين اتفقوا على اشتراطها في قبول شهادة الشاهد لقوله تعالى : (  ممن ترضون من الشهداء      ) ولقوله تعالى : (  وأشهدوا ذوي عدل منكم      ) واختلفوا فيما هي العدالة ، فقال الجمهور : هي صفة زائدة على الإسلام ، وهو أن يكون ملتزما لواجبات الشرع ومستحباته ، مجتنبا للمحرمات والمكروهات ، وقال  أبو حنيفة     : يكفي في العدالة ظاهر الإسلام ، وأن لا تعلم منه جرحة .  
وسبب الخلاف كما قلنا ترددهم في مفهوم اسم العدالة المقابلة للفسق ، وذلك أنهم اتفقوا على أن  شهادة الفاسق   لا تقبل لقوله تعالى : (  ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا      ) الآية .  
ولم يختلفوا أن الفاسق تقبل شهادته إذا عرفت توبته ، إلا من كان فسقه من قبل القذف ، فإن   أبا حنيفة  يقول : لا تقبل شهادته وإن تاب . والجمهور يقولون : تقبل .  
وسبب الخلاف هل يعود الاستثناء في قوله تعالى : (  ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك      ) إلى أقرب مذكور إليه ، أو على الجملة إلا ما خصصه الإجماع ، وهو أن التوبة لا تسقط عنه الحد ، وقد تقدم هذا .  
2 - وأما البلوغ فإنهم اتفقوا على أنه يشترط حيث تشترط العدالة . واختلفوا في شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح وفي القتل ، فردها جمهور فقهاء الأمصار لما قلناه من وقوع الإجماع على أن من شرط الشهادة العدالة ، ومن شرط العدالة البلوغ ، ولذلك ليست في الحقيقة شهادة عند  مالك  ، وإنما هي قرينة حال ، ولذلك اشترط فيها أن لا يتفرقوا لئلا يجبنوا .  
واختلف أصحاب  مالك  هل تجوز إذا كان بينهم كبير أم لا ؟ ولم يختلفوا أنه يشترط فيها العدة المشترطة في الشهادة .  
واختلفوا هل يشترط فيها الذكورة أم لا ؟ واختلفوا أيضا هل تجوز في القتل الواقع بينهم ؟ ولا عمدة  لمالك  في هذا إلا أنه مروي عن  ابن الزبير     . قال   الشافعي     : فإذا احتج محتج بهذا قيل له : إن   ابن عباس  قد ردها ، والقرآن يدل على بطلانها ، وقال بقول  مالك   ابن أبي ليلى  وقوم من التابعين ، وإجازة  مالك  لذلك هو من باب إجازته قياس المصلحة .  
3 - وأما الإسلام فاتفقوا على أنه شرط في القبول ، وأنه لا تجوز شهادة الكافر ، إلا ما اختلفوا فيه من جواز ذلك في الوصية في السفر لقوله تعالى : (  ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت      ) الآية .  
 [ ص: 771 ] فقال  أبو حنيفة     : يجوز ذلك على الشروط التي ذكرها الله ، وقال  مالك   والشافعي     : لا يجوز ذلك ، ورأوا أن الآية منسوخة .  
4 - وأما الحرية ، فإن جمهور فقهاء الأمصار على اشتراطها في قبول الشهادة ، وقال  أهل الظاهر      : تجوز شهادة العبد ; لأن الأصل إنما هو اشتراط العدالة ، والعبودية ليس لها تأثير في الرد ، إلا أن يثبت ذلك من كتاب الله أو سنة أو إجماع ، وكأن الجمهور رأوا أن العبودية أثر من أثر الكفر فوجب أن يكون لها تأثير في رد الشهادة .  
5 - وأما التهمة التي سببها المحبة ، فإن العلماء أجمعوا على أنها مؤثرة في إسقاط الشهادة . واختلفوا فيرد شهادة العدل بالتهمة لموضع المحبة أو البغضة   التي سببها العداوة الدنيوية ، فقال بردها فقهاء الأمصار ، إلا أنهم اتفقوا في مواضع على إعمال التهمة ، وفي مواضع على إسقاطها ، وفي مواضع اختلفوا فيها فأعملها بعضهم وأسقطها بعضهم .  
فمما اتفقوا عليه رد شهادة الأب لابنه والابن لأبيه ، وكذلك الأم لابنها ، وابنها لها .  
ومما اختلفوا في  تأثير التهمة في شهادتهم شهادة الزوجين أحدهما للآخر   ، فإن  مالكا  ردها  وأبا حنيفة  ، وأجازها   الشافعي   وأبو ثور  ،  والحسن  ، وقال   ابن أبي ليلى     : تقبل شهادة الزوج لزوجه ولا تقبل شهادتها له ، وبه قال :  النخعي     .  
ومما اتفقوا على إسقاط التهمة فيه  شهادة الأخ لأخيه   ما لم يدفع بذلك عن نفسه عارا على ما قال  مالك  ، وما لم يكن منقطعا إلى أخيه يناله بره وصلته ، ما عدا   الأوزاعي  فإنه قال : لا تجوز .  
ومن هذا الباب اختلافهم في قبول  شهادة العدو على عدوه   ، فقال  مالك   والشافعي     : لا تقبل ، وقال  أبو حنيفة     : تقبل .  
فعمدة الجمهور في  رد الشهادة بالتهمة   ما روي عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : "  لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين     " وما خرجه  أبو داود  من قوله - عليه الصلاة والسلام - : "  لا تقبل شهادة بدوي على حضري     " ، لقلة شهود البدوي ما يقع في المصر ، فهذه هي عمدتهم من طريق السماع .  
وأما من طريق المعنى فلموضع التهمة ، وقد أجمع الجمهور على أن تأثيرها في الأحكام الشرعية مثل اجتماعهم على أنه يرث القاتل المقتول ، وعلى توريث المبتوتة في المرض وإن كان فيه خلاف .  
وأما الطائفة الثانية ( وهم  شريح   وأبو ثور  ،  وداود     ) فإنهم قالوا تقبل  شهادة الأب لابنه   فضلا عمن سواه إذا كان الأب عدلا .  
وعمدتهم قوله تعالى : (  ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين      ) والأمر بالشيء يقتضي إجزاء المأمور به إلا ما خصصه الإجماع من شهادة المرء لنفسه .  
وأما من طريق النظر ، فإن لهم أن يقولوا رد الشهادة بالجملة إنما هو لموضع اتهام الكذب ، وهذه التهمة إنما اعتملها الشرع في الفاسق ومنع إعمالها في العادل ، فلا تجتمع العدالة مع التهمة .  
 [ ص: 772 ]    [  عدد الشهود   وجنسهم ]  
وأما النظر في العدد والجنس ، فإن المسلمين اتفقوا على أنه لا يثبت الزنى بأقل من أربعة عدول ذكور ، واتفقوا على أنه تثبت جميع الحقوق ما عدا الزنى بشاهدين عدلين ذكرين ما خلا   الحسن البصري  ، فإنه قال : لا تقبل بأقل من أربعة شهداء تشبيها بالرجم ، وهذا ضعيف لقوله سبحانه (  واستشهدوا شهيدين من رجالكم      ) .  
وكل متفق أن الحكم يجب بالشاهدين من غير يمين المدعي ، إلا   ابن أبي ليلى  فإنه قال : لا بد من يمينه .  
واتفقوا على أنه تثبت الأموال بشاهد عدل ذكر وامرأتين لقوله تعالى : (  فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء      ) واختلفوا في قبولهما في الحدود ، فالذي عليه الجمهور أنه لا تقبل شهادة النساء في الحدود لا مع رجل ولا مفردات ، وقال  أهل الظاهر      : تقبل إذا كان معهن رجل وكان النساء أكثر من واحدة في كل شيء على ظاهر الآية ، وقال  أبو حنيفة     : تقبل في الأموال وفيما عدا الحدود من أحكام الأبدان مثل الطلاق والرجعة والنكاح والعتق ، ولا تقبل عند  مالك  في حكم من أحكام البدن .  
واختلف أصحاب  مالك  في قبولهن في حقوق الأبدان المتعلقة بالمال ، مثل الوكالات والوصية التي لا تتعلق إلا بالمال فقط ، فقال  مالك  ،  وابن القاسم  ،  وابن وهب     : يقبل فيه شاهد وامرأتان ، وقال  أشهب  ،   وابن الماجشون     : لا يقبل فيه إلا رجلان .  
وأما  شهادة النساء مفردات      ( أعني : النساء دون الرجال ) فهي مقبولة عند الجمهور في حقوق الأبدان التي لا يطلع عليها الرجال غالبا مثل الولادة والاستهلال وعيوب النساء . ولا خلاف في شيء من هذا إلا في الرضاع ، فإن   أبا حنيفة  قال : لا تقبل فيه شهادتهن إلا مع الرجال ; لأنه عنده من حقوق الأبدان التي يطلع عليها الرجال والنساء .  
والذين قالوا بجواز شهادتهن مفردات في هذا الجنس اختلفوا في العدد المشترط في ذلك منهن ، فقال  مالك     : يكفي في ذلك امرأتان ، قيل مع انتشار الأمر ، وقيل إن لم ينتشر ، وقال   الشافعي     : ليس يكفي في ذلك أقل من أربع ; لأن الله عز وجل قد جعل عديل الشاهد الواحد امرأتين ، واشترط الاثنينية ، وقال قوم : لا يكتفي بذلك أقل من ثلاث وهو قول لا معنى له ، وأجاز  أبو حنيفة  شهادة المرأة فيما بين السرة والركبة ، وأحسب أن  الظاهرية   أو بعضهم لا يجيزون شهادة النساء مفردات في كل شيء كما يجيزون شهادتهن مع الرجال في كل شيء وهو الظاهر .  
وأما  شهادة المرأة الواحدة بالرضاع   ، فإنهم أيضا اختلفوا فيها لقوله - عليه الصلاة والسلام - في المرأة الواحدة التي شهدت بالرضاع : "  كيف وقد أرضعتكما     " ، وهذا ظاهره الإنكار ، ولذلك لم يختلف قول  مالك  في أنه مكروه .  
				
						
						
