سورة النحل
258 - بالجمع ، وفي خمس مواضع : " إن في ذلك لآية " على الوحدة . أما الجمع فلموافقة قوله : قوله فيها في موضعين : "إن في ذلك لآيات" مسخرات في الآيتين ، لتقع الموافقة في اللفظ والمعنى ، وأما التوحيد فلتوحيد المدلول عليه .
ومن الخمس قوله : إن في ذلك لآية لقوم يذكرون وليس له نظير ، وخص الذكر لاتصاله بقوله : وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه ، فإن اختلاف ألوان الشيء وتغير أحواله يدل على صانع حكيم فما يشبهه شيء ، فمن تأمل فيها تذكر .
ومن الخمس : إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون في موضعين ، وليس لهما نظير ، وخصتا بالتفكر لأن الأولى متصلة بقوله : ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات ، وأكثرها للأكل ، وبه قوام البدن ، فيستدعي تفكرا وتأملا ، ليعرف به المنعم عليه فيشكر . والثانية متصلة بذكر النحل ، وفيها أعجوبة من انقيادها لأميرها ، واتخاذها البيوت على أشكال يعجز عنها الحاذق ، ثم تتبعها الزهر والطل من الأشجار ، ثم خروج ذلك [ ص: 158 ] من بطونها لعابا هو شفاء ، فاقتضى ذلك ذكرا بليغا ، فختم الآية بالتفكير .
259 - وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا ما في هذه السورة جاء على القياس ، فإن " الفلك " المفعول الأول لترى ، و " مواخر " المفعول الثاني ، وفيه ظروف ، وحقه التأخر ، والواو في قوله : ولتبتغوا للعطف على لام العلة في قوله : لتأكلوا منه ، وأما في الملائكة فقدم " فيه " موافقة لما قبله ، وهو قوله : ومن كل تأكلون لحما طريا فوافق تقديم الجار والمجرور على الفعل والفاعل ، ولم يزد الواو على " لتبتغوا " ؛ لأن اللام في " لتبتغوا " هنا لام العلة ، وليس بعطف على شيء قبله . ثم إن قوله : وترى الفلك مواخر فيه في هذه السورة ، و فيه مواخر في فاطر ، اعتراض في السورتين يجري مجرى المثل ، ولهذا وحد الخطاب فيه ، وهو قوله : وترى ، وقبله وبعده جمع ، وهو قوله : لتأكلوا ، وتستخرجوا ، ولتبتغوا ، وفي الملائكة : " تأكلوا " ، وتستخرجون ، ومثله في القرآن كثير : كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ، وكذلك : تراهم ركعا سجدا ، و وترى الملائكة حافين من حول العرش ، وأمثاله ، أي لو حصرت أيها المخاطب لرأيته بهذه الصفة ، كما تقول : أيها الرجل وكلكم ذلك الرجل ، فتأمل فإن فيه دقيقة .
260 - وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ، [ ص: 159 ] وبعده : قوله : وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا . إنما رفع الأول لأنهم أنكروا إنزال القرآن ، فعدلوا عن الجواب ، فقالوا : أساطير الأولين . والثاني من كلام المتقين ، وهو مقرون بالوحي والإنزال ، فقالوا : خيرا . أي : أنزل خيرا ، فيكون الجواب مطابقا .
وخيرا نصب بأنزل ، وإن شئت جعلت خيرا مفعول القول ، أي : قالوا خيرا ، ولم يقولوا شرا كما قالت الكفار ، وإن شئت جعلت خيرا صفة مصدر محذوف ، أي : قالوا قولا خيرا . وقد ذكرت مثله ما زاد في موضعها .
261 - قوله : فلبئس مثوى المتكبرين ليس له في القرآن نظير . الفاء للعطف على فاء التعقيب في قوله : فادخلوا أبواب جهنم ، واللام للتأكيد ، يجري مجرى القسم موافقة لقوله : ولنعم دار المتقين ، وليس له نظير ، وبينهما ولدار الآخرة خير .
262 - فأصابهم سيئات ما عملوا هنا ، وفي الجاثية " 33 " ، وفي غيرهما : " ما كسبوا " ؛ لأن العمل أعم من الكسب ، ولهذا قال : قوله : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره . وخصت هذه السورة لموافقة ما قبله ، وهو قوله : ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ، ولموافقة ما بعده ، وهو قوله : وتوفى كل نفس ما عملت ، وفي الزمر " 70 " ، وليس لها نظير .
[ ص: 160 ] 263 - قوله : لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء قد سبق .
264 - قوله : ولله يسجد ما في السماوات قد سبق .
265 - قوله : ولله يسجد من في السماوات قد سبق أيضا .
266 - ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ، ومثله في الروم " 34 " ، وفي العنكبوت : قوله : وليتمتعوا فسوف يعلمون باللام والياء ، أما التاء في السورتين فبإضمار القول ، أي : قل لهم تمتعوا ، كما في قوله : قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار ، وكذلك : قل تمتع بكفرك قليلا . وخصت هذه بالخطاب بقوله : إذا فريق منكم ، وألحق ما في الروم به .
وأما في العنكبوت فعلى القياس ، عطف على اللام قبله ، وهي للغائب .
267 - قوله : ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ، وفي الملائكة : بما كسبوا ما ترك على ظهرها . الهاء في هذه السورة كناية عن الأرض ، ولم يتقدم ذكرها ، والعرب تجوز ذلك في كلمات منها : الأرض ، تقول : فلان أفضل من عليها . ومنها : السماء ، تقول : فلان أكرم من تحتها . ومنها : الغداء ، ( تقول ) : إنها اليوم لباردة . ومنها : الأصابع ، تقول : والذي شقهن خمسا من واحدة ، يعني الأصابع من اليد . وإنما جوزوا ذلك لحصولها بين يدي كل متكلم وسامع .
[ ص: 161 ] ولما كان كناية عن غير مذكور لم يزد معه الظهر ؛ لئلا يلتبس بالدابة ، لأن الظهر أكثر ما يستعمل في الدابة . قال - عليه الصلاة والسلام - : . إن المنبت لا أرضا قطع ، ولا ظهرا أبقى
وأما في الملائكة فقد تقدم ذكر الأرض في قوله : " أولم يسيروا في الأرض " ، وبعدها : " ولا في الأرض " ، فكان كناية عن مذكور سابق ، فذكر الظهر حيث لا يلتبس .
قال الخطيب : لما قال في النحل : بظلمهم ؛ لم يقل : ( على ظهرها ) احترازا عن الجمع بين الظاءين ؛ لأنها تقل في الكلام ، وليست لأمة من الأمم سوى العرب .
قال : ولم يجئ في هذه السورة إلا في سبعة أحرف ، نحو : الظلم ، والنظر ، والظل ، وظل وجهه ، والظهر ، والعظم ، والوعظ ، فلم يجمع بينهما في جملتين معقودتين عقد كلام واحد ، وهو : لو وجوابه .
267 - فأحيا به الأرض بعد موتها ، وفي العنكبوت : قوله : من بعد موتها ، وكذلك حذف من قوله : لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ، وفي الحج : من بعد علم شيئا ؛ لأنه أجمل الكلام في هذه السورة ( وفصل في الحج ) فقال : فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة . . . إلى قوله : ومنكم من يتوفى فاقتضى الإجمال [ ص: 162 ] الحذف ، والتفصيل الإثبات . فجاء في كل سورة بما اقتضاه الحال .
268 - نسقيكم مما في بطونه ، وفي المؤمنين : قوله : في بطونها ؛ لأن ( الضمير ) في هذه السورة يعود إلى البعض وهو الإناث ؛ لأن اللبن لا يكون للكل ، فصار تقدير الآية : وإن لكم في بعض الأنعام . بخلاف ما في المؤمنين ، فإنه عطف عليه ما يعود على الكل ولا يقتصر على البعض ، وهو قوله : ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها ، ثم يحتمل أن يكون المراد البعض ، فأنث حملا على الأنعام ، وما قيل من أن الأنعام ههنا بمعنى النعم ؛ لأن الألف واللام تلحق الآحاد بالجمع ، وفي إلحاق الجمع بالآحاد حسن ، لكن الكلام وقع في التخصيص ، والوجه ما ذكرت ، والله أعلم .
269 - وبنعمت الله هم يكفرون ، وفي العنكبوت : قوله : يكفرون بغير " هم " ؛ لأن في هذه السورة اتصل والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات . ثم عاد إلى الغيبة فقال : أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون . فلا بد من تقييده بهم ؛ لئلا تلتبس الغيبة بالخطاب والتاء بالباء .
وما في العنكبوت اتصل بآيات استمرت على الغيبة فيها كلها ، فلم يحتج إلى تقييده بالضمير .
270 - ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم . كرر " إن " ، وكذلك في الآية الأخرى : قوله : ثم إن ربك ؛ لأن [ ص: 163 ] الكلام لما طال بصلته ، أعاد إن واسمها ، وثم ، وذكر الخبر ، ومثله : أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون أعاد أن واسمها لما طال الكلام .
271 - ولا تك في ضيق مما ، وفي النمل : قوله : ولا تكن بإثبات النون . هذه الكلمة كثر دورها في الكلام ، فحذف النون منها تخفيفا من غير قياس ، بل تشبيها بحروف العلة ، ويأتي ذلك في القرآن في بضع عشرة موضعا ، تسعة منها بالتاء ، وثمانية بالياء ، وموضعان بالنون ، وموضع بالهمزة ، وخصت هذه السورة بالحذف دون النمل موافقة لما قبلها وهو قوله : ولم يك من المشركين .
والثاني : إن هذه الآية نزلت تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين قتل عمه ومثل به ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : حمزة لأفعلن بهم ولأصنعن ، فأنزل الله تعالى : ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ، فبالغ في الحذف ليكون ذلك مبالغة في التسلي ، وجاء في النمل على القياس ؛ ولأن الحزن هنا دون الحزن هناك .