ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائة
في هذه السنة سير أبو جعفر الناس من الكوفة والبصرة والجزيرة والموصل إلى غزو الديلم ، واستعمل عليهم محمد بن أبي العباس السفاح .
وفيها رجع المهدي من خراسان إلى العراق ، وبنى بريطة ابنة عمه السفاح .
وفيها حج المنصور ، واستعمل على عسكره والميرة خازم بن خزيمة .
ذكر استعمال رياح بن عثمان المري على المدينة وأمر محمد بن عبد الله بن الحسن
وفيها استعمل المنصور على المدينة رياح بن عثمان المري ، وعزل محمد بن خالد بن عبد الله القسري عنها .
وكان سبب عزله وعزل زياد قبله أن المنصور أهمه أمر محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، وتخلفهما عن الحضور عنده مع من حضره من بني هاشم عام حج أيام سنة ست وثلاثين ، وذكر أن السفاح محمد بن عبد الله كان يزعم أن المنصور ممن بايعه ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة حين اضطرب أمر مروان بن محمد ، فلما حج المنصور سنة ست وثلاثين سأل عنهما ، فقال له زياد بن عبد الله الحارثي : ما يهمك من أمرهما ، أنا آتيك بهما . وكان معه بمكة ، فرده المنصور إلى المدينة .
[ ص: 98 ] فلما استخلف المنصور لم يكن همه إلا أمر محمد والمسألة عنه وما يريد ، فدعا بني هاشم رجلا رجلا يسأله سرا عنه ، فكلهم يقول : قد علم أنك عرفته يطلب هذا الأمر ، فهو يخافك على نفسه ، وهو لا يريد لك خلافا ، وما أشبه هذا الكلام ، إلا ، فإنه أخبره خبره وقال له : والله ما آمن وثوبه عليك ، فإنه لا ينام عنك ، فأيقظ بكلامه من لا ينام ، فكان الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب موسى بن عبد الله بن الحسن يقول بعد ذلك : اللهم اطلب حسن بن زيد بدمائنا .
ثم ألح المنصور على عبد الله بن الحسن في إحضار ابنه محمد سنة حج ، فقال عبد الله : يا أخي بيننا من الصهر والرحم ما تعلم ، فما ترى ؟ فقال لسليمان بن علي بن عبد الله بن عباس سليمان : والله لكأنني أنظر إلى أخي حين الستر بينه وبيننا وهو يشير إلينا : هذا الذي فعلتم بي ، فلو كان عافيا عفا عن عمه . فقبل عبد الله بن علي عبد الله رأي سليمان ، وعلم أنه قد صدقه ولم يظهر ابنه .
ثم إن المنصور اشترى رقيقا من رقيق الأعراب ، وأعطى الرجل منهم البعير ، والرجل البعيرين ، والرجل الذود ، وفرقهم في طلب محمد في ظهر المدينة ، وكان الرجل منهم يرد الماء كالمار ، وكالضال يسألون عنه ، وبعث المنصور عينا آخر ، وكتب معه كتابا على ألسن الشيعة إلى محمد يذكرون طاعتهم ومسارعتهم ، وبعث معه بمال وألطاف ، وقدم الرجل المدينة فدخل على عبد الله بن الحسن بن الحسن فسأله عن ابنه محمد ، فذكر له ، فكتم له خبره ، فتردد الرجل إليه ، وألح في المسألة ، فذكر أنه في جبل جهينة ، فقال له : امرر بعلي ابن الرجل الصالح الذي يدعى الأغر ، وهو بذي الإبر ، فهو يرشدك ، فأتاه فأرشده .
وكان للمنصور كاتب على سره يتشيع ، فكتب إلى عبد الله بن الحسن يخبره بذلك العين ، فلما قدم الكتاب ارتاعوا له وبعثوا أبا هبار إلى محمد وإلى يحذرهما الرجل ، فخرج علي بن الحسن أبو هبار فنزل بعلي بن الحسن وأخبره ، ثم سار إلى محمد بن عبد الله في موضعه الذي هو به ، فإذا هو جالس في كهف ومعه جماعة من أصحابه ، وذلك العين معهم أعلاهم صوتا ، وأشدهم انبساطا .
فلما رأى أبا هبار خافه ، فقال أبو هبار لمحمد : لي حاجة . فقام معه ، فأخبره الخبر ، قال : فما الرأي ؟ قال : أرى إحدى ثلاث . قال : وما هي ؟ قال : تدعني أقتل هذا الرجل . قال : ما أنا مقارف دما إلا كرها . قال : أثقله حديدا وتنقله معك حيث تنقلب . قال : وهل لنا فرار مع الخوف والإعجال ؟ قال : نشده ونودعه عند بعض أهلك من جهينة . قال : هذه إذا .
[ ص: 99 ] فرجعا فلم يريا الرجل . فقال محمد : أين الرجل ؟ قالوا : [ قام ] بركوة ماء وتوارى بهذا الطريق يتوضأ ، فطلبوه ولم يجدوه فكأن الأرض التأمت عليه ، وسعى على قدميه حتى اتصل بالطريق ، فمر به الأعراب معهم حمولة إلى المدينة ، فقال لبعضهم : فرغ هذه الغرارة وأدخلنيها أكن عدلا لصاحبتها ولك كذا وكذا . ففعل وحمله حتى أقدمهالمدينة .
ثم قدم على المنصور ، وأخبره خبره كله ، ونسي اسم أبي هبار وكنيته وقال : وبار . فكتب أبو جعفر في طلب 9 وبار المري ، فحمل إليه رجل اسمه وبر فسأله عن قصة محمد فحلف أنه لا يعرف من ذلك شيئا ، فأمر به وضرب سبعمائة سوط وحبس حتى مات المنصور .
ثم إنه أحضر عقبة بن سلم الأزدي فقال : أريدك لأمر أنا به معني ، لم أزل أرتاد له رجلا عسى أن تكونه ، وإن كفيتنيه رفعتك . فقال : أرجو أن أصدق ظن أمير المؤمنين في . [ قال ] : فأخف شخصك ، واستر أمرك ، وأتني يوم كذا في وقت كذا .
فأتاه ذلك الوقت . فقال له : إن بني عمنا هؤلاء قد أبوا إلا كيدا لملكنا واغتيالا له ، ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا يكاتبونهم ، ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم ، وألطاف من ألطاف بلادهم ، فاخرج بكسا وألطاف وعين حتى تأتيهم متنكرا بكتاب تكتبه عن أهل هذه القرية ثم تعلم حالهم ، فإن كانوا نزعوا عن رأيهم فأحبب والله بهم وأقرب ، وإن كانوا على رأيهم عملت ذلك وكنت على حذر ، فاشخص حتى تلقى عبد الله بن الحسن متخشعا ومتقشفا ، فإن جبهك ، وهو فاعل ، فاصبر وعاوده حتى يأنس بك ويلين لك ناحيته ، فإذا أظهر لك ما قبله فاعجل علي .
فشخص حتى قدم على عبد الله ، فلقيه بالكتاب ، فأنكره ونهره وقال : ما أعرف هؤلاء القوم . فلم يزل يتردد إليه حتى قبل كتابه وألطافه وأنس به ، فسأله عقبة الجواب . فقال : أما الكتاب ، فإني لا أكتب إلى أحد ، ولكن أنت كتابي إليهم ، فأقرئهم السلام ، وأعلمهم أنني خارج لوقت كذا وكذا .
ورجع عقبة إلى المنصور فأعلمه الخبر ، فأنشأ المنصور الحج ، وقال لعقبة : إذا لقيني بنو الحسن فيهم عبد الله بن الحسن فأنا مكرمه ، ورافع مجلسه ، وداع بالغداء ، فإذا فرغنا من طعامنا فلحظتك فامثل بين يديه قائما ، فإنه سيصرف عنك بصره ، فاستدر [ ص: 100 ] حتى تغمز ظهره بإبهام رجلك حتى يملأ عينه منك ، ثم حسبك ، وإياك أن يراك ما دام يأكل .
فخرج إلى الحج ، فلما لقيه بنو الحسن أجلس عبد الله إلى جانبه ثم دعا بالغداء فأصابوا منه ، ثم رفع فأقبل على عبد الله بن الحسن فقال له : قد علمت ما أعطيتني من العهود والمواثيق ألا تبغيني بسوء ولا تكيد لي سلطانا ؟ قال : فأنا على ذلك يا أمير المؤمنين . فلحظ المنصور عقبة بن سلم فاستدار حتى وقف بين يدي عبد الله فأعرض عنه ، فاستدار حتى قام وراء ظهره فغمزه بإصبعه ، فرفع رأسه فملأ عينه منه ، فوثب حتى قعد بين يدي المنصور ، فقال : ( أقلني يا أمير المؤمنين ، أقالك الله ! قال : لا أقالني الله إن أقلتك ) ! ثم أمر بحبسه .
وكان محمد قد قدم قبل ذلك البصرة ، فنزلها في بني راسب يدعو إلى نفسه ، وقيل : نزل على عبد الله بن شيبان أحد بني مرة بن عبيد ، ثم خرج منها ، فبلغ المنصور مقدمه البصرة ، فسار إليها مغذا ، فنزل عند الحر الأكبر ، فلقيه فقال له : يا عمرو بن عبيد أبا عثمان هل بالبصرة أحد تخافه على أمرنا ؟ قال : لا . قال : فاقتصر على قولك وانصرف . قال : نعم .
وكان محمد قد سار عنها قبل مقدم المنصور ، فرجع المنصور ، واشتد الخوف على محمد وإبراهيم ابني عبد الله فخرجا حتى أتيا عدن ، ثم سارا إلى السند ثم إلى الكوفة ثم إلى المدينة .
وكان المنصور قد حج سنة أربعين ومائة ، فقسم أموالا عظيمة في آل أبي طالب ، فلم يظهر محمد وإبراهيم ، فسأل أباهما عبد الله عنهما ، فقال : لا علم لي بهما ، فتغالظا ، فأمصه حتى قال له : امصص كذا وكذا من أمك ! فقال : يا أبو جعفر المنصور أبا جعفر ، بأي أمهاتي تمصني ؟ ! - صلى الله عليه وسلم - ؟ أم أبفاطمة بنت رسول الله بفاطمة بنت الحسين بن علي ؟ أم بأم إسحاق بنت طلحة ؟ ؟ [ قال ] : لا بواحدة منهن ، ولكن أم بخديجة بنت خويلد بالحرباء بنت قسامة بن زهير ! وهي امرأة من طيئ ، فقال المسيب بن زهير : يا أمير المؤمنين ، دعني أضرب عنق ابن الفاعلة ! فقام زياد بن عبد الله فألقى عليه رداءه وقال : هبه لي [ يا ] أمير المؤمنين ، فأستخرج لك ابنيه ، فتخلصه [ منه ] .
[ ص: 101 ] وكان محمد وإبراهيم ابنا عبد الله قد تغيبا حين حج المنصور سنة أربعين ومائة عن المدينة ، وحج أيضا فاجتمعوا بمكة وأرادوا اغتيال المنصور ، فقال لهم الأشتر عبد الله بن محمد : أنا أكفيكموه ! فقال محمد : لا والله لا أقتله أبدا غيلة حتى أدعوه . فنقض ما كانوا أجمعوا عليه .
وكان قد دخل عليهم قائد من قواد المنصور من أهل خراسان اسمه خالد بن حسان يدعى أبا العساكر على ألف رجل ، فنمى الخبر إلى المنصور فطلب ، فلم يظفر به ، فظفر بأصحابه فقتلهم ، وأما القائد فإنه لحق بمحمد بن عبد الله بن محمد .
ثم إن المنصور حث زياد بن عبد الله على طلب محمد وإبراهيم ، فضمن له ذلك ووعده به ، فقدم محمد المدينة قدمة ، فبلغ ذلك زيادا ، فتلطف له ، وأعطاه الأمان على أن يظهر وجهه للناس ، فوعده محمد ذلك ، فركب زياد مع المساء وواعد محمدا سوق الظهر ، وركب محمد ، فتصايح الناس : يا أهل المدينة ، المهدي المهدي ! فوقف هو وزياد ، فقال زياد : يا أيها الناس ، هذا محمد بن عبد الله بن الحسن ، ثم قال له : الحق بأي بلاد الله شئت . فتوارى محمد .
وسمع المنصور الخبر فأرسل أبا الأزهر في جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين ومائة إلى المدينة ، فأمره أن يستعمل على المدينة عبد العزيز بن المطلب ، وأن يقبض على زياد وأصحابه ، ويسير بهم إليه ، فقدم أبو الأزهر المدينة ، ففعل ما أمره ، وأخذ زيادا وأصحابه ، وسار نحو المنصور ، وخلف زياد في بيت مال المدينة ثمانين ألف دينار ، فسجنهم المنصور ، ثم من عليهم بعد ذلك .
واستعمل المنصور على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسري ، وأمره بطلب محمد بن عبد الله ، وبسط يده في النفقة في طلبه . فقدم المدينة في رجب سنة إحدى وأربعين ، فأخذ المال ورفع في محاسبته أموالا كثيرة أنفقها في طلب محمد ، فاستبطأه أبو جعفر واتهمه ، فكتب إليه يأمره بكشف المدينة وأعراضها ، فطاف ببيوت الناس فلم يجد محمدا .
فلما رأى المنصور ما قد أخرج من الأموال ، ولم يظفر بمحمد استشار أبا العلاء - رجلا من قيس عيلان - في أمر محمد بن عبد الله وأخيه ، فقال : أرى أن تستعمل رجلا من ولد الزبير أو طلحة ، فإنهم يطلبونهما بذحل ، ويخرجونهما إليك . فقال : قاتلك الله ما أجود ما رأيت ! والله ما خفي علي هذا ، ولكنني أعاهد الله لا أنتقم من بني عمي وأهل [ ص: 102 ] بيتي بعدوي وعدوهم ، ولكني أبعث عليهم صعلوكا من العرب يفعل بهم ما قلت .
فاستشار يزيد بن يزيد السلمي وقال له : دلني على فتى مقل من قيس أغنيه وأشرفه وأمكنه من سيد اليمن ، يعني ابن القسري ، [ قال ] : هو رياح بن عثمان بن حيان المري ، فسيره أميرا على المدينة في رمضان سنة أربع وأربعين .
وقيل : إن رياحا ضمن للمنصور أن يخرج محمدا وإبراهيم ابني عبد الله إن استعمله على المدينة ، فاستعمله عليها ، فسار حتى دخلها ، فلما دخل دار مروان ، وهي التي كان ينزلها الأمراء ، قال لحاجب كان له يقال له أبو البختري : هذه دار مروان ؟ قال : نعم . قال : أما إنها محلال مظعان ، ونحن أول من يظعن منها .
فلما تفرق الناس عنه قال لحاجبه : يا أبا البختري ، خذ بيدي ندخل على هذا الشيخ ، يعني عبد الله بن الحسن ، فدخلا عليه ، وقال رياح : أيها الشيخ ، إن أمير المؤمنين والله ما استعملني لرحم قريبة ، ولا ليد سلفت إليه ، والله لا لعبت في كما لعبت بزياد وابن القسري ، والله لأزهقن نفسك ، أو لتأتيني بابنيك محمد وإبراهيم ! فرفع رأسه إليه وقال : نعم ، أما والله إنك لأزيرق قيس المذبوح فيها كما تذبح الشاة ! .
قال أبو البختري : فانصرف والله رياح آخذا بيدي ، أجد برد يده ، وإن رجليه لتخطان الأرض مما كلمه . قال : فقلت له : إن هذا ما اطلع على الغيب . قال : إيها ، ويلك ! فوالله ما قال إلا ما سمع . فذبح كما تذبح الشاة .
ثم إنه دعا بالقسري وسأله عن الأموال ، فضربه وسجنه ، وأخذ كاتبه رزاما وعاقبه فأكثر ، وطلب إليه أن يذكر ما أخذ محمد بن خالد من الأموال ، وهو لا يجيبه ، فلما طال عليه العذاب أجابه إلى ذلك ، فقال له رياح : أحضر الرفيعة وقت اجتماع الناس ، ففعل ذلك ، فلما اجتمع الناس أحضره فقال : أيها الناس إن الأمير أمرني أن أرفع على ابن خالد ، وقد كتبت كتابا لأنجو به ، وإنا لنشهدكم أن كل ما فيه باطل . فأمر رياح فضرب مائة سوط ، ورد إلى السجن .
وجد رياح في طلب محمد ، فأخبر أنه في شعب من شعاب رضوى ، جبل جهينة ، وهو في عمل ينبع ، فأمر عامله في طلب محمد ، فهرب منه راجلا ، فأفلت وله ابن صغير [ ص: 103 ] ولد في خوفه وهو مع جارية له فسقط من الجبل فتقطع ، فقال محمد :
منخرق السربال يشكو الوجى تنكبه أطراف مرو حداد شرده الخوف فأزرى به
كذاك من يكره حر الجلاد قد كان في الموت له راحة
والموت حتم في رقاب العباد
وبينا رياح يسير في الحرة إذ لقي محمدا ، فعدل محمد إلى بئر هناك فجعل يستقي ، فقال رياح : قاتله الله أعرابيا ما أحسن ذراعه ! .